فصل: تفسير الآية رقم (17)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتُلِفَ فِيصِفَةِ اسْتِهْزَاءِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ فَاعِلُهُ بِالْمُنَافِقِينَ، الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ‏.‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ اسْتِهْزَاؤُهُ بِهِمْ، كَالَّذِي أَخْبَرَنَا تَبَارَكَ اسْمُهُ أَنَّهُ فَاعِلٌ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْحَدِيدِ‏:‏ 13‏]‏‏.‏ الْآيَةُ‏.‏ وَكَالَّذِي أَخْبَرَنَا أَنَّهُ فَعَلَ بِالْكَفَّارِ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 178‏]‏‏.‏ فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنِ اسْتِهْزَاءِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ وَسُخْرِيَتِهِ وَمَكْرِهِ وَخَدِيعَتِهِ لِلْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الشِّرْكِ بِهِ- عِنْدَ قَائِلِي هَذَا الْقَوْلِ، وَمُتَأَوِّلِي هَذَا التَّأْوِيلِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلِ اسْتِهْزَاؤُهُ بِهِمْ، تَوْبِيخُهُ إِيَّاهُمْ وَلَوْمُهُ لَهُمْ عَلَى مَا رَكِبُوا مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ وَالْكُفْرِ بِهِ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ ‏"‏ إِنَّ فُلَانًا لِيُهْزَأُ مِنْهُ مُنْذُ الْيَوْمِ، وَيُسْخَرُ مِنْهُ ‏"‏، يُرَادُ بِهِ تَوْبِيخُ النَّاسِ إِيَّاهُ وَلَوْمُهُمْ لَهُ، أَوْ إِهْلَاكُهُ إِيَّاهُمْ وَتَدْمِيرُهُ بِهِمْ، كَمَا قَالَ عَبِيدُ بْنُ الْأَبْرَصِ‏:‏

سَائِلْ بِنَا حُجْرَ ابْنَ أُمِ قَطَامِ، إِذْ *** ظَلَّتْ بِهِ السُّمْرُ النَّوَاهِلُ تَلْعَبُ

فَزَعَمُوا أَنَّ السُّمْرَ- وَهِيَ الْقَنَا- لَا لَعِبَ مِنْهَا، وَلَكِنَّهَا لَمَّا قَتَلَتْهُمْ وَشَرَّدَتْهُمْ، جَعَلَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهَا لَعِبًا بِمَنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ بِهِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ فَكَذَلِكَ اسْتِهْزَاءُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِمَنِ اسْتَهْزَأَ بِهِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ بِهِ‏:‏ إِمَّا إِهْلَاكُهُ إِيَّاهُمْ وَتَدْمِيرُهُ بِهِمْ، وَإِمَّا إِمْلَاؤُهُ لَهُمْ لِيَأْخُذَهُمْ فِي حَالِ أَمْنِهِمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ بَغْتَةً، أَوْ تَوْبِيخُهُ لَهُمْ وَلَائِمَتُهُ إِيَّاهُمْ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَكَذَلِكَ مَعْنَى الْمَكْرِ مِنْهُ وَالْخَدِيعَةِ وَالسُّخْرِيَةِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النِّسَاءِ‏:‏ 142‏]‏ عَلَى الْجَوَابِ، كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِمَنْ كَانَ يَخْدَعُهُ إِذَا ظَفِرَ بِهِ‏:‏ ‏"‏ أَنَا الَّذِي خَدَعْتُكَ ‏"‏، وَلَمْ تَكُنْ مِنْهُ خَدِيعَةٌ، وَلَكِنْ قَالَ ذَلِكَ إِذْ صَارَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 54‏]‏، وَ ‏{‏اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ‏}‏، عَلَى الْجَوَابِ‏.‏ وَاللَّهُ لَا يَكُونُ مِنْهُ الْمَكْرُ وَلَا الْهُزْءُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَكْرَ وَالْهُزْءَ حَاقَ بِهِمْ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ‏}‏، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النِّسَاءِ‏:‏ 142‏]‏، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ التَّوْبَةِ‏:‏ 79‏]‏، ‏{‏نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ التَّوْبَةِ‏:‏ 67‏]‏، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُ مُجَازِيهِمْ جَزَاءَ الِاسْتِهْزَاءِ، وَمُعَاقِبُهُمْ عُقُوبَةَ الْخِدَاعِ‏.‏ فَأَخْرَجَ خَبَرَهُ عَنْ جَزَائِهِ إِيَّاهُمْ وَعِقَابِهِ لَهُمْ، مُخْرَجَ خَبَرِهِ عَنْ فِعْلِهِمُ الَّذِي عَلَيْهِ اسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ فِي اللَّفْظِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ الْمَعْنَيَانِ‏.‏ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الشُّورَى‏:‏ 40‏]‏، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأُولَى مِنْ صَاحِبِهَا سَيِّئَةٌ، إِذْ كَانَتْ مِنْهُ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَعْصِيَةٌ، وَأَنِ الْأُخْرَى عَدْلٌ، لِأَنَّهَا مِنَ اللَّهِ جَزَاءٌ لِلْعَاصِي عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَهُمَا- وَإِنِ اتَّفَقَ لَفْظَاهُمَا- مُخْتَلِفَا الْمَعْنَى‏.‏ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 194‏]‏، فَالْعُدْوَانُ الْأَوَّلُ ظُلْمٌ، وَالثَّانِي جَزَاءٌ لَا ظُلْمٌ، بَلْ هُوَ عَدْلٌ، لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ لِلظَّالِمِ عَلَى ظُلْمِهِ، وَإِنْ وَافَقَ لَفْظُهُ لَفْظَ الْأَوَّلِ‏.‏

وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى وَجَّهُوا كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ، مِمَّا هُوَ خَبَرٌ عَنْ مَكْرِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ بِقَوْمٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ أَخْبَرَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ إِذَا خَلَوْا إِلَى مَرَدَتِهِمْ قَالُوا‏:‏ إِنَّا مَعَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ فِي تَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَإِنَّمَا نَحْنُ بِمَا نُظْهِرُ لَهُمْ- مِنْ قَوْلِنَا لَهُمْ‏:‏ صَدَّقْنَا بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا جَاءَ بِهِ- مُسْتَهْزِئُونَ‏.‏ يَعْنُونَ‏:‏ إِنَّا نُظْهِرُ لَهُمْ مَا هُوَ عِنْدَنَا بَاطِلٌ لَا حَقٌّ وَلَا هُدًى‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى مِنْ مَعَانِي الِاسْتِهْزَاءِ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ ‏{‏يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ‏}‏، فَيُظْهِرُ لَهُمْ مِنْ أَحْكَامِهِ فِي الدُّنْيَا خِلَافَ الَّذِي لَهُمْ عِنْدَهُ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أَظْهَرُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الدِّينِ مَا هُمْ عَلَى خِلَافِهِ فِي سَرَائِرِهِمْ‏.‏

وَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ وَالتَّأْوِيلِ عِنْدَنَا‏:‏ أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ‏:‏ إِظْهَارُ الْمُسْتَهْزِئِ لِلْمُسْتَهْزَأِ بِهِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَا يُرْضِيهِ ظَاهِرًا، وَهُوَ بِذَلِكَ مِنْ قِيلِهِ وَفِعْلِهِ بِهِ مُورِثُهُ مَسَاءَةً بَاطِنًا‏.‏ وَكَذَلِكَ مَعْنَى الْخِدَاعِ وَالسُّخْرِيَةِ وَالْمَكْرِ‏.‏

فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ جَعَلَ لِأَهْلِ النِّفَاقِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَحْكَامِ- بِمَا أَظْهَرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ، مِنَ الْإِقْرَارِ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، الْمُدْخِلِهِمْ فِي عِدَادِ مَنْ يَشْمَلُهُ اسْمُ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانُوا لِغَيْرِ ذَلِكَ مُسْتَبْطِنِينَ- أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ الْمُصَدِّقِينَ إِقْرَارَهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ بِذَلِكَ، بِضَمَائِرِ قُلُوبِهِمْ، وَصَحَائِحِ عَزَائِمِهِمْ، وَحَمِيدِ أَفْعَالِهِمُ الْمُحَقِّقَةِ لَهُمْ صِحَّةَ إِيمَانِهِمْ- مَعَ عِلْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِكَذِبِهِمْ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَى خُبْثِ اعْتِقَادِهِمْ، وَشَكِّهِمْ فِيمَا ادَّعَوْا بِأَلْسِنَتِهِمْ أَنَّهُمْ بِهِ مُصَدِّقُونَ، حَتَّى ظَنُّوا فِي الْآخِرَةِ إِذْ حُشِرُوا فِي عِدَادِ مَنْ كَانُوا فِي عِدَادِهِمْ فِي الدُّنْيَا، أَنَّهُمْ وَارِدُونَ مَوْرِدَهُمْ‏.‏ وَدَاخِلُونَ مُدْخَلَهُمْ‏.‏ وَاللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ- مَعَ إِظْهَارِهِ مَا قَدْ أَظْهَرَ لَهُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُلْحِقَتِهِمْ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا وَآجِلِ الْآخِرَةِ إِلَى حَالِ تَمْيِيزِهِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَوْلِيَائِهِ، وَتَفْرِيقِهِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ- مُعِدٌّ لَهُمْ مِنْ أَلِيمِ عِقَابِهِ وَنَكَالِ عَذَابِهِ، مَا أَعَدَّ مِنْهُ لَأَعْدَى أَعْدَائِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ، حَتَّى مَيَّزَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَوْلِيَائِهِ، فَأَلْحَقَهُمْ مِنْ طَبَقَاتِ جَحِيمِهِ بِالدَّرْكِ الْأَسْفَلِ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ بِهِمْ- وَإِنْ كَانَ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى أَفْعَالِهِمْ، وَعَدْلًا مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ بِهِمْ لِاسْتِحْقَاقِهِمْ إِيَّاهُ مِنْهُ بِعِصْيَانِهِمْ لَهُ- كَانَ بِهِمْ- بِمَا أَظْهَرَ لَهُمْ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أَظْهَرَهَا لَهُمْ‏:‏ مِنْ إِلْحَاقِهِ أَحْكَامَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِأَحْكَامِ أَوْلِيَائِهِ وَهُمْ لَهُ أَعْدَاءٌ، وَحَشْرِهِ إِيَّاهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ بِهِ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ- إِلَى أَنْ مَيَّزَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ- مُسْتَهْزِئًا، وَبِهِمْ سَاخِرًا، وَلَهُمْ خَادِعًا، وَبِهِمْ مَاكِرًا‏.‏ إِذْ كَانَ مَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ وَالْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ مَا وَصَفْنَا قَبْلُ، دُونَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ فِي حَالٍ فِيهَا الْمُسْتَهْزِئُ بِصَاحِبِهِ لَهُ ظَالِمٌ، أَوْ عَلَيْهِ فِيهَا غَيْرُ عَادِلٍ، بَلْ ذَلِكَ مَعْنَاهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ، إِذَا وُجِدَتِ الصِّفَاتُ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا فِي مَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ نَظَائِرِهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِيهِ رُوِيَ الْخَبَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ يَسْخَرُ بِهِمْ لِلنِّقْمَةِ مِنْهُمْ‏.‏

وَأَمَّا الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ‏}‏، إِنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ الْجَوَابِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ اللَّهِ اسْتِهْزَاءٌ وَلَا مَكْرٌ وَلَا خَدِيعَةٌ، فَنَافُونَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا قَدْ أَثْبَتَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَفْسِهِ، وَأَوْجَبَهُ لَهَا‏.‏ وَسَوَاءٌ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ لَمْ يَكُنْ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ اسْتِهْزَاءٌ وَلَا مَكْرٌ وَلَا خَدِيعَةٌ وَلَا سُخْرِيَةٌ بِمَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَسْتَهْزِئُ وَيَسْخَرُ وَيَمْكُرُ بِهِ، أَوْ قَالَ‏:‏ لَمْ يَخْسِفِ اللَّهُ بِمَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَسَفَ بِهِ مِنَ الْأُمَمِ، وَلَمْ يُغْرِقْ مَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَغْرَقَهُ مِنْهُمْ‏.‏

وَيُقَالُ لِقَائِلٍ ذَلِكَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ مَكَرَ بِقَوْمٍ مَضَوْا قَبْلَنَا لَمْ نَرَهُمْ، وَأَخْبَرَ عَنْ آخَرِينَ أَنَّهُ خَسَفَ بِهِمْ، وَعَنْ آخَرِينَ أَنَّهُ أَغْرَقَهُمْ، فَصَدَّقْنَا اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِيمَا أَخْبَرَنَا بِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ نُفَرِّقْ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهُ‏.‏ فَمَا بُرْهَانُكَ عَلَى تَفْرِيقِكَ مَا فَرَّقْتَ بَيْنَهُ، بِزَعْمِكَ‏:‏ أَنَّهُ قَدْ أَغْرَقَ وَخَسَفَ بِمَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَغْرَقَ وَخَسَفَ بِهِ، وَلَمْ يَمْكُرْ بِمَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ مَكَرَ بِهِ‏؟‏

ثُمَّ نَعْكِسُ الْقَوْلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَلَنْ يَقُولَ فِي أَحَدِهِمَا شَيْئًا إِلَّا أُلْزِمَ فِي الْآخَرِ مِثْلَهُ‏.‏

فَإِنْ لَجَأَ إِلَى أَنْ يَقُولَ‏:‏ إِنَّ الِاسْتِهْزَاءَ عَبَثٌ وَلَعِبٌ، وَذَلِكَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَنْفِيٌّ‏.‏

قِيلَ لَهُ‏:‏ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ عِنْدَكَ عَلَى مَا وَصَفْتَ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ، أَفْلَسْتَ

تَقُولُ‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ‏}‏، وَ ‏{‏سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ‏}‏ وَ‏"‏ مَكْرَ اللَّهُ بِهِمْ ‏"‏، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ اللَّهِ عِنْدَكَ هَزْءٌ وَلَا سُخْرِيَةٌ‏؟‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ ‏"‏ لَا ‏"‏، كَذَّبَ بِالْقُرْآنِ، وَخَرَجَ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ‏.‏

وَإِنْ قَالَ‏:‏ ‏"‏بَلَى ‏"‏، قِيلَ لَهُ‏:‏ أَفَنَقُولُ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْتَ‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ‏}‏ وَ ‏{‏سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ‏}‏- ‏"‏ يَلْعَبُ اللَّهُ بِهِمْ ‏"‏وَ‏"‏ يَعْبَث‏"‏- وَلَا لَعِبَ مِنَ اللَّهِ وَلَا عَبَثَ‏؟‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ ‏"‏ نَعَمْ ‏"‏‏!‏ وَصَفَ اللَّهَ بِمَا قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى نَفْيِهِ عَنْهُ، وَعَلَى تَخْطِئَةِ وَاصِفِهِ بِهِ، وَأَضَافَ إِلَيْهِ مَا قَدْ قَامَتِ الْحُجَّةُ مِنَ الْعُقُولِ عَلَى ضَلَالِ مُضِيفِهِ إِلَيْهِ‏.‏

وَإِنْ قَالَ‏:‏ لَا أَقُولُ‏:‏ ‏"‏يَلْعَبُ اللَّهُ بِهِم‏"‏ وَلَا ‏"‏يَعْبَثُ ‏"‏، وَقَدْ أَقُولُ ‏{‏يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ‏}‏ وَ‏"‏ يَسْخَرُ مِنْهُمْ ‏"‏‏.‏

قِيلَ‏:‏ فَقَدْ فَرَّقَتَ بَيْنَ مَعْنَى اللَّعِبِ وَالْعَبَثِ، وَالْهَزْءِ وَالسُّخْرِيَةِ، وَالْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ‏.‏ وَمِنَ الْوَجْهِ الَّذِي جَازَ قِيلَ هَذَا، وَلَمْ يَجُزْ قِيلَ هَذَا، افْتَرَقَ مَعْنَيَاهُمَا‏.‏ فَعُلِمَ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْنًى غَيْرَ مَعْنَى الْآخَرِ‏.‏

وَلِلْكَلَامِ فِي هَذَا النَّوْعِ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا، كَرِهْنَا إِطَالَةَ الْكِتَابِ بِاسْتِقْصَائِهِ‏.‏ وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَيَمُدُّهُمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيَمُدُّهُمْ‏}‏، فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا- ‏:‏

حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏ يَمُدُّهُمْ ‏"‏، يُمْلِي لَهُمْ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا- ‏:‏

حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قِرَاءَةً عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏ يَمُدُّهُمْ ‏"‏، قَالَ‏:‏ يَزِيدُهُمْ‏.‏

وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ بِمَعْنَى‏:‏ يَمُدُّ لَهُمْ، وَيَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِ الْعَرَبِ‏:‏ الْغُلَامُ يَلْعَبُ الْكِعَابَ، يُرَادُ بِهِ يَلْعَبُ بِالْكِعَابِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَدْ يَقُولُونَ‏:‏ ‏"‏قَدْ مَدَدْتُ لَهُ وَأَمْدَدْتُ لَه‏"‏ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏(‏وَأَمْدَدْنَاهُمْ‏)‏ ‏[‏سُورَةُ الطُّورِ‏:‏ 22‏]‏، وَهَذَا مِنْ‏:‏ ‏"‏مَدَدْنَاهُمْ ‏"‏‏.‏ قَالَ‏:‏ وَيُقَالُ‏:‏ قَد‏"‏ مَدَّ الْبَحْرُ فَهُوَ مَادٌّ ‏"‏وَ‏"‏ أَمَدَّ الْجُرْحُ فَهُوَ مُمِدٌّ ‏"‏‏.‏ وَحُكِيَ عَنْ يُونُسَ الْجَرْمِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ مَا كَانَ مِنَ الشَّرِّ فَهُو‏"‏ مَدَدْتُ ‏"‏، وَمَا كَانَ مِنَ الْخَيْرِ فَهُوَ ‏"‏أَمْدَدْتُ ‏"‏‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ وَهُوَ كَمَا فَسَّرْتُ لَكَ، إِذَا أَرَدْتَ أَنَّكَ تَرَكْتَهُ فَهُو‏"‏ مَدَدْتُ لَهُ ‏"‏، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنَّكَ أَعْطَيْتَهُ قُلْتَ‏:‏ ‏"‏ أَمْدَدْتُ ‏"‏‏.‏

وَأَمَّا بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ كُلُّ زِيَادَةٍ حَدَثَتْ فِي الشَّيْءِ مِنْ نَفْسِهِ فَهُوَ ‏"‏مَدَدْت‏"‏ بِغَيْرِ أَلْفٍ، كَمَا تَقُولُ‏:‏ ‏"‏مَدَّ النَّهْرُ، وَمَدَّهُ نَهْرٌ آخَرُ غَيْرُهُ ‏"‏، إِذَا اتَّصَلَ بِهِ فَصَارَ مِنْهُ، وَكُلُّ زِيَادَةٍ أُحْدِثَتْ فِي الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ بِأَلِفٍ، كَقَوْلِكَ‏:‏ ‏"‏ أَمَدَّ الْجُرْحُ ‏"‏، لِأَنَّ الْمَدَّةَ مِنْ غَيْرِ الْجُرْحِ، وَأَمْدَدْتُ الْجَيْشَ بِمَدَدٍ‏.‏

وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ وَيَمُدُّهُمْ ‏"‏‏:‏ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى يَزِيدُهُمْ، عَلَى وَجْهِ الْإِمْلَاءِ وَالتَّرْكِ لَهُمْ فِي عُتُوِّهِمْ وَتَمَرُّدِهِمْ، كَمَا وَصَفَ رَبُّنَا أَنَّهُ فَعَلَ بِنُظَرَائِهِمْ فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَنْعَامِ‏:‏ 110‏]‏، يَعْنِي نَذَرُهُمْ وَنَتْرُكُهُمْ فِيهِ، وَنُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا إِلَى إِثْمِهِمْ‏.‏

وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ‏:‏ ذَلِكَ بِمَعْنَى ‏"‏يَمُدُّ لَهُمْ ‏"‏، لِأَنَّهُ لَا تَدَافُعَ بَيْنَ الْعَرَبِ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بَلَّغْتُهَا أَنْ يَسْتَجِيزُوا قَوْلَ الْقَائِلِ‏:‏ ‏"‏ مَدَّ النَّهْرَ نَهْرٌ آخَرُ ‏"‏، بِمَعْنَى‏:‏ اتَّصَلَ بِهِ فَصَارَ زَائِدًا مَاءُ الْمُتَّصَلِ بِهِ بِمَاءِ الْمُتَّصِلِ- مِنْ غَيْرِ تَأَوُّلٍ مِنْهُمْ‏.‏ ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ مَدَّ النَّهْرَ نَهْرٌ آخَرُ‏.‏ فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فِي طُغْيَانِهِمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَ‏"‏ الطُّغْيَانُ ‏"‏‏"‏ الْفُعْلَانُ ‏"‏، مِنْ قَوْلِكَ‏:‏ ‏"‏ طَغَى فُلَانٌ يَطْغَى طُغْيَانًا ‏"‏‏.‏ إِذَا تَجَاوَزَ فِي الْأَمْرِ حَدَّهُ فَبَغَى‏.‏ وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْعَلَقِ‏:‏ 6- 7‏]‏، أَيْ يَتَجَاوَزُ حَدَّهُ‏.‏ وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ‏:‏

وَدَعَا اللهَ دَعْوَةً لَاتَ هَنَّا *** بَعْدَ طُغْيَانِهِ، فَظَلَّ مُشِيرَا

وَإِنَّمَا عَنَى اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ ‏{‏وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ‏}‏، أَنَّهُ يُمْلِي لَهُمْ، وَيَذَرُهُمْ يَبْغُونَ فِي ضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِمْ حَيَارَى يَتَرَدَّدُونَ‏.‏ كَمَا- ‏:‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرٌ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ فِي كُفْرِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏فِي طُغْيَانِهِمْ‏}‏، فِي كُفْرِهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، ‏{‏فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏، أَيْ فِي ضَلَالَتِهِمْ يَعْمَهُونَ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ‏:‏ ‏{‏فِي طُغْيَانِهِمْ‏}‏، فِي ضَلَالَتِهِمْ‏.‏

وَحَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ ‏{‏فِي طُغْيَانِهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ طُغْيَانُهُمْ، كُفْرُهُمْ وَضَلَالَتُهُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَعْمَهُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالْعَمَهُ نَفْسُهُ‏:‏ الضَّلَالُ‏.‏ يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ عَمِهَ فُلَانٌ يَعْمَهُ عَمَهَانًا وَعُمُوهًا، إِذَا ضَلَّ‏.‏ وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ يَصِفُ مَضَلَّةً مِنَ الْمَهَامِهِ‏:‏

وَمَخْفَقٍ مِنْ لُهْلُهٍ وَلُهْلُهِ *** مِنْ مَهْمَهٍ يَجْتَبْنَهُ فِي مَهْمَهِ

أَعْمَى الْهُدَى بِالْجَاهِلِينَ الْعُمَّهِ

وَ ‏"‏الْعُمَّه‏"‏ جَمْعُ عَامِهٍ، وَهُمُ الَّذِينَ يَضِلُّونَ فِيهِ فَيَتَحَيَّرُونَ‏.‏ فَمَعْنَى قَوْلِهِ إِذًا‏:‏ ‏{‏فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏‏:‏ فِي ضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِمُ الَّذِي قَدْ غَمَرَهُمْ دَنَسُهُ، وَعَلَاهُمْ رِجْسُهُ، يَتَرَدَّدُونَ حَيَارَى ضُلَّالًا لَا يَجِدُونَ إِلَى الْمَخْرَجِ مِنْهُ سَبِيلًا لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَخَتَمَ عَلَيْهَا، فَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ عَنِ الْهُدَى وَأَغْشَاهَا، فَلَا يُبْصِرُونَ رُشْدًا وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا‏.‏

وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ‏"‏الْعَمَه‏"‏ جَاءَ تَأْوِيلُ الْمُتَأَوِّلِينَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏ يَعْمَهُونَ ‏"‏، يَتَمَادَوْنَ فِي كُفْرِهِمْ‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ يَعْمَهُونَ ‏"‏، قَالَ‏:‏ يَتَمَادَوْنَ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرٌ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ يَعْمَهُونَ ‏"‏، قَالَ‏:‏ يَتَرَدَّدُونَ‏.‏

وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏ يَعْمَهُونَ ‏"‏‏:‏ الْمُتَلَدِّدُ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ مَيْمُونٍ، قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ يَتَرَدَّدُونَ‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قِرَاءَةً، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، ‏"‏ يَعْمَهُونَ ‏"‏، قَالَ‏:‏ يَتَرَدَّدُونَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ إِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَكَيْفَ اشْتَرَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى، وَإِنَّمَا كَانُوا مُنَافِقِينَ لَمْ يَتَقَدَّمْ نِفَاقَهُمْ إِيمَانٌ فَيُقَالُ فِيهِمْ‏:‏ بَاعُوا هُدَاهُمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ بِضَلَالَتِهِمْ حَتَّى اسْتَبْدَلُوهَا مِنْهُ‏؟‏ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَعْنَى الشِّرَاءِ الْمَفْهُومِ‏:‏ اعْتِيَاضُ شَيْءٍ بِبَذْلِ شَيْءٍ مَكَانَهُ عِوَضًا مِنْهُ، وَالْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، لَمْ يَكُونُوا قَطُّ عَلَى هُدًى فَيَتْرُكُوهُ وَيَعْتَاضُوا مِنْهُ كُفْرًا وَنِفَاقًا‏؟‏

قِيلَ‏:‏ قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَنَذْكُرُ مَا قَالُوا فِيهِ، ثُمَّ نُبَيِّنُ الصَّحِيحَ مِنَ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدٍِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى‏}‏، أَيِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ‏.‏

وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى‏}‏، يَقُولُ‏:‏ أَخَذُوا الضَّلَالَةَ وَتَرَكُوا الْهُدَى‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى‏}‏، اسْتَحَبُّوا الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى‏}‏، آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا‏.‏

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَكَأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ‏:‏ ‏"‏أَخَذُوا الضَّلَالَةَ وَتَرَكُوا الْهُدَى‏"‏- وَجَّهُوا مَعْنَى الشِّرَاءِ إِلَى أَنَّهُ أَخَذَ الْمُشْتَرَى مَكَانَ الثَّمَنِ الْمُشْتَرَى بِهِ، فَقَالُوا‏:‏ كَذَلِكَ الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ، قَدْ أَخَذَا مَكَانَ الْإِيمَانِ الْكُفْرَ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا شِرَاءً لِلْكَفْرِ وَالضَّلَالَةِ اللَّذَيْنِ أَخَذَاهُمَا بِتَرْكِهِمَا مَا تَرَكَا مِنَ الْهُدَى، وَكَانَ الْهُدَى الَّذِي تَرَكَاهُ هُوَ الثَّمَنُ الَّذِي جَعَلَاهُ عِوَضًا مِنَ الضَّلَالَةِ الَّتِي أَخَذَاهَا‏.‏

وَأَمَّا الَّذِينَ تَأَوَّلُوا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ ‏"‏اشْتَرَوْا ‏"‏‏:‏ ‏"‏ اسْتَحَبُّوا ‏"‏، فَإِنَّهُمْ لَمَّا وَجَدُوا اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ وَصَفَ الْكُفَّارَ فِي مَوْضِعٍِ آخَرَ، فَنَسَبَهُمْ إِلَى اسْتِحْبَابِهِمُ الْكُفْرَ عَلَى الْهُدَى، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى‏}‏ ‏[‏سُورَةُ فُصِّلَتْ‏:‏ 17‏]‏، صَرَفُوا قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى‏}‏ إِلَى ذَلِكَ‏.‏ وَقَالُوا‏:‏ قَدْ تَدْخُلُ ‏"‏الْبَاء‏"‏ مَكَانَ ‏"‏عَلَى ‏"‏، وَ‏"‏ عَلَى‏"‏ مَكَانَ ‏"‏الْبَاءِ ‏"‏، كَمَا يُقَالُ‏:‏ مَرَرْتُ بِفُلَانٍ، وَمَرَرْتُ عَلَى فُلَانٍ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَكَقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 75‏]‏، أَيْ عَلَى قِنْطَارٍ‏.‏ فَكَانَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى مَعْنَى هَؤُلَاءِ‏:‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ اخْتَارُوا الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى‏.‏ وَأَرَاهُمْ وَجَّهُوا مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُه‏"‏ اشْتَرَوْا ‏"‏ إِلَى مَعْنَى اخْتَارُوا، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ‏:‏ اشْتَرَيْتُ كَذَا عَلَى كَذَا، وَاسْتَرَيتُهُ- يَعْنُونَ اخْتَرْتُهُ عَلَيْهِ‏.‏

وَمِنَ الِاسْتِرَاءِ قَوْلُ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ

فَقَدْ أُخْرِجُ الْكَاعِبَ الْمُسْتَرَا *** ةَ مِنْ خِدْرِهَا وَأُشِيعُ الْقِمَارَ

يَعْنِي بِالْمُسْتَرَاةِ‏:‏ الْمُخْتَارَةَ‏.‏

وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ، فِي الِاشْتِرَاءِ بِمَعْنَى الِاخْتِيَارِ‏:‏

يَذُبُّ الْقَصَايَا عَنْ شَرَاةٍ كَأَنَّهَا *** جَمَاهِيرُ تَحْتَ الْمُدْجِنَاتِ الْهَوَاضِبِ‏.‏

يَعْنِي بِالشَّرَاةِ‏:‏ الْمُخْتَارَةَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ‏:‏

إِنَّ الشَّرَاةَ رُوقَةُ الأَمْوَالِ *** وَحَزْرَةُ الْقَلْبِ خِيَارُ الْمَالِ

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا، وَإِنْ كَانَ وَجْهًا مِنَ التَّأْوِيلِ، فَلَسْتُ لَهُ بِمُخْتَارٍ‏.‏ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ‏:‏ ‏{‏فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ‏}‏، فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى‏}‏ مَعْنَى الشِّرَاءِ الَّذِي يُتَعَارَفُهُ النَّاسُ، مِنِ اسْتِبْدَالِ شَيْءٍ مَكَانَ شَيْءٍ، وَأَخْذِ عِوَضٍ عَلَى عِوَضٍ‏.‏

وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا‏:‏ إِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَكَفَرُوا، فَإِنَّهُ لَا مَؤُونَةَ عَلَيْهِمْ، لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفُوا بِهِ الْقَوْمَ‏.‏ لِأَنَّ الْأَمْرَ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَقَدْ تَرَكُوا الْإِيمَانَ، وَاسْتَبْدَلُوا بِهِ الْكُفْرَ عِوَضًا مِنَ الْهُدَى‏.‏ وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْنَى الْمَفْهُومُ مِنْ مَعَانِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، وَلَكِنَّ دَلَائِلَ أَوَّلِ الْآيَاتِ فِي نُعُوتِهِمْ إِلَى آخِرِهَا، دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَكُونُوا قَطُّ اسْتَضَاءُوا بِنُورِ الْإِيمَانِ، وَلَا دَخَلُوا فِي مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، أَوَمَا تَسْمَعُ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مِنْ لَدُنِ ابْتَدَأَ فِي نَعْتِهِمْ، إِلَى أَنْ أَتَى عَلَى صِفَتِهِمْ، إِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِإِظْهَارِ الْكَذِبِ بِأَلْسِنَتِهِمْ‏:‏ بِدَعْوَاهُمُ التَّصْدِيقَ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، خِدَاعًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ، وَاسْتِهْزَاءً فِي نُفُوسِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ لِغَيْرِ مَا كَانُوا يُظْهِرُونَ مُسْتَبْطِنُونَ‏.‏ يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏، ثُمَّ اقْتَصَّ قَصَصَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى‏}‏‏؟‏فَأَيْنَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَكَفَرُوا‏؟‏

فَإِنَّ كَانَ قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ ظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى‏}‏ هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ قَدْ كَانُوا عَلَى الْإِيمَانِ فَانْتَقَلُوا عَنْهُ إِلَى الْكُفْرِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُم‏"‏ اشْتَرَوْا ‏"‏- فَإِنَّ ذَلِكَ تَأْوِيلٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لَهُ، إِذْ كَانَ الِاشْتِرَاءُ عِنْدَ مُخَالِفِيهِ قَدْ يَكُونُ أَخْذَ شَيْءٍ بِتَرْكِ آخَرَ غَيْرِهِ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الِاخْتِيَارِ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي‏.‏ وَالْكَلِمَةُ إِذَا احْتَمَلَتْ وُجُوهًا، لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ صَرْفُ مَعْنَاهَا إِلَى بَعْضِ وُجُوهِهَا دُونَ بَعْضٍ، إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى عِنْدِي بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، مَا رَوَيْنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ تَأْوِيلِهِمَا قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى‏}‏‏:‏ أَخَذُوا الضَّلَالَةَ وَتَرَكُوا الْهُدَى‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ بِاللَّهِ فَإِنَّهُ مُسْتَبْدِلٌ بِالْإِيمَانِ كُفْرًا، بِاكْتِسَابِهِ الْكُفْرَ الَّذِي وُجِدَ مِنْهُ، بَدَلًا مِنَ الْإِيمَانِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ‏.‏ أَوَمَا تَسْمَعُ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يَقُولُ فِيمَنِ اكْتَسَبَ كُفْرًا بِهِ مَكَانَ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 108‏]‏‏؟‏ وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى الشِّرَاءِ، لِأَنَّ كُلَّ مُشْتَرٍ شَيْئًا فَإِنَّمَا يَسْتَبْدِلُ مَكَانَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ مِنَ الْبَدَلِ آخَرَ بَدِيلًا مِنْهُ‏.‏ فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ، اسْتَبْدَلَا بِالْهُدَى الضَّلَالَةَ وَالنِّفَاقَ، فَأَضَلَّهُمَا اللَّهُ، وَسَلَبَهُمَا نُورَ الْهُدَى، فَتَرَكَ جَمِيعَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ- بِشِرَائِهِمُ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى- خَسِرُوا وَلَمْ يَرْبَحُوا، لِأَنَّ الرَّابِحَ مِنَ التُّجَّارِ‏:‏ الْمُسْتَبْدِلُ مِنْ سِلْعَتِهِ الْمَمْلُوكَةِ عَلَيْهِ بَدَلًا هُوَ أَنْفَسَ مِنْ سِلْعَتِهِ الْمَمْلُوكَةِ أَوْ أَفْضَلَ مِنْ ثَمَنِهَا الَّذِي يَبْتَاعُهَا بِهِ‏.‏ فَأَمَّا الْمُسْتَبْدِلُ مِنْ سِلْعَتِهِ بَدَلًا دُونَهَا وَدُونَ الثَّمَنِ الَّذِي ابْتَاعَهَا بِهِ، فَهُوَ الْخَاسِرُ فِي تِجَارَتِهِ لَا شَكَّ‏.‏ فَكَذَلِكَ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ، لِأَنَّهُمَا اخْتَارَا الْحَيْرَةَ وَالْعَمَى عَلَى الرَّشَادِ وَالْهُدَى، وَالْخَوْفَ وَالرُّعْبَ عَلَى الْحِفْظِ وَالْأَمْنِ، وَاسْتَبْدَلَا فِي الْعَاجِلِ‏:‏ بِالرَّشَادِ الْحَيْرَةَ، وَبِالْهُدَى الضَّلَالَةَ، وَبِالْحِفْظِ الْخَوْفَ، وَبِالْأَمْنِ الرُّعْبَ- مَعَ مَا قَدْ أَعَدَّ لَهُمَا فِي الْآجِلِ مِنَ أَلِيمِ الْعِقَابِ وَشَدِيدِ الْعَذَابِ، فَخَابَا وَخَسِرَا، ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ كَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، ‏{‏فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ‏}‏‏:‏ قَدْ وَاللَّهِ رَأَيْتُمُوهُمْ خَرَجُوا مِنَ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالَةِ، وَمِنَ الْجَمَاعَةِ إِلَى الْفُرْقَةِ، وَمِنَ الْأَمْنِ إِلَى الْخَوْفِ، وَمِنَ السُّنَّةِ إِلَى الْبِدْعَةِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ‏}‏‏؟‏ وَهَلِ التِّجَارَةُ مِمَّا تَرْبَحُ أَوْ تُوكِسُ، فَيُقَالُ‏:‏ رَبِحَتْ أَوْ وُضِعَتْ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ إِنَّ وَجْهَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ مَا ظَنَنْتَ‏.‏ وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ فَمَا رَبِحُوا فِي تِجَارَتِهِمْ- لَا فِيمَا اشْتَرَوْا، وَلَا فِيمَا شَرَوْا‏.‏ وَلَكِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَاطَبَ بِكِتَابِهِ عَرَبًا فَسَلَكَ فِي خِطَابِهِ إِيَّاهُمْ وَبَيَانِهِ لَهُمْ، مَسْلَكَ خِطَابِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَبَيَانِهِمُ الْمُسْتَعْمَلِ بَيْنَهُمْ‏.‏ فَلَمَّا كَانَ فَصِيحًا لَدَيْهِمْ قَوْلُ الْقَائِلِ لِآخَرَ‏:‏ خَابَ سَعْيُكَ، وَنَامَ لَيْلُكَ، وَخَسِرَ بَيْعُكَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى سَامِعِهِ مَا يُرِيدُ قَائِلُهُ- خَاطَبَهُمْ بِالَّذِي هُوَ فِي مَنْطِقِهِمْ مِنَ الْكَلَامِ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ‏}‏ إِذْ كَانَ مَعْقُولًا عِنْدَهُمْ أَنَّ الرِّبْحَ إِنَّمَا هُوَ فِي التِّجَارَةِ، كَمَا النَّوْمُ فِي اللَّيْلِ‏.‏ فَاكْتَفَى بِفَهْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِمَعْنَى ذَلِكَ، عَنْ أَنْ يُقَالَ‏:‏ فَمَا رَبِحُوا فِي تِجَارَتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

وَشَرُّ الْمَنَايَا مَيِّتٌ وَسْطَ أَهْلِهِ *** كَهُلْكِ الْفَتَاةِ أَسْلَمَ الْحَيَّ حَاضِرُهْ

يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ وَشَرُّ الْمَنَايَا مَنِيَّةُ مَيِّتٍ وَسَطَ أَهْلِهِ، فَاكْتَفَى بِفَهْمِ سَامِعِ قِيلِهِ مُرَادَهُ مِنْ ذَلِكَ، عَنْ إِظْهَارِ مَا تَرَكَ إِظْهَارَهُ، وَكَمَا قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ‏:‏

حَارِثُ‏!‏ قَدْ فَرَّجْتَ عَنِّي هَمِّي *** فَنَامَ لَيْلِي وَتَجَلَّى غَمِّي

فَوَصَفَ بِالنَّوْمِ اللَّيْلَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي نَامَ، وَكَمَا قَالَ جَرِيرُ بْنُ الْخَطَفَى‏:‏

وَأَعْوَرَ مِنْ نَبْهَانَ أَمَّا نَهَارُهُ *** فَأَعْمَى، وَأَمَّا لَيْلُهُ فَبَصِيرُ

فَأَضَافَ الْعَمَى وَالْإِبْصَارَ إِلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمُرَادُهُ وَصْفُ النَّبْهَانِيِّ بِذَلِكَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ‏}‏‏.‏

يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏{‏وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ‏}‏‏:‏ مَا كَانُوا رُشَدَاءَ فِي اخْتِيَارِهِمُ الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى، وَاسْتِبْدَالِهِمُ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ، وَاشْتِرَائِهِمُ النِّفَاقَ بِالتَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ وَكَيْفَ قِيلَ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا‏}‏، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ ‏"‏الْهَاءَ وَالْمِيم‏"‏ مِنْ قَوْلِهِ ‏"‏مَثَلُهُم‏"‏ كِنَايَةُ جِمَاعٍ- مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ- وَ‏"‏ الَّذِي ‏"‏ دَلَالَةٌ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الذُّكُورِ‏؟‏ فَكَيْفَ جَعَلَ الْخَبَرَ عَنْ وَاحِدٍ مَثَلًا لِجَمَاعَةٍ‏؟‏ وَهَلَّا قِيلَ‏:‏ مَثَّلَهُمْ كَمَثَلِ الَّذِينَ اسْتَوْقَدُوا نَارًا‏؟‏ وَإِنْ جَازَ عِنْدَكَ أَنْ تُمَثِّلَ الْجَمَاعَةَ بِالْوَاحِدِ، فَتُجِيزُ لِقَائِلٍ رَأَى جَمَاعَةً مِنَ الرِّجَالِ فَأَعْجَبَتْهُ صُوَرُهُمْ وَتَمَامُ خُلُقِهِمْ وَأَجْسَامِهِمْ، أَنْ يَقُولَ‏:‏ كَأَنَّ هَؤُلَاءِ، أَوْ كَأَنَّ أَجْسَامَ هَؤُلَاءِ، نَخْلَةٌ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ أَمَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي مَثَّلَ رَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ جَمَاعَةً مِنَ الْمُنَافِقِينَ، بِالْوَاحِدِ الَّذِي جَعَلَهُ لِأَفْعَالِهِمْ مَثَلًا فَجَائِزٌ حَسَنٌ، وَفِي نَظَائِرِهِ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي نَظِيرِ ذَلِكَ‏:‏ ‏{‏تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَحْزَابِ‏:‏ 19‏]‏، يَعْنِي كَدَوَرَانِ عَيْنِ الَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ- وَكَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ لُقْمَانَ‏:‏ 28‏]‏ بِمَعْنَى‏:‏ إِلَّا كَبَعْثِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ‏.‏

وَأَمَّا فِي تَمْثِيلِ أَجْسَامِ الْجَمَاعَةِ مِنَ الرِّجَالِ، فِي الطُّولِ وَتَمَامِ الْخَلْقِ، بِالْوَاحِدَةِ مِنَ النَّخِيلِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ، وَلَا فِي نَظَائِرِهِ، لِفِرَقٍ بَيْنَهُمَا‏.‏

فَأَمَّا تَمْثِيلُ الْجَمَاعَةِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِالْمُسْتَوْقِدِ الْوَاحِدِ، فَإِنَّمَا جَازَ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْخَبَرِ عَنْ مَثَلِ الْمُنَافِقِينَ، الْخَبَرُ عَنْ مَثَلِ اسْتِضَاءَتِهِمْ بِمَا أَظْهَرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الْإِقْرَارِ وَهُمْ لِغَيْرِهِ مُسْتَبْطِنُونَ- مِنِ اعْتِقَادَاتِهِمُ الرَّدِيئَةِ، وَخَلْطِهِمْ نِفَاقَهُمُ الْبَاطِنَ بِالْإِقْرَارِ بِالْإِيمَانِ الظَّاهِرِ‏.‏ وَالِاسْتِضَاءَةُ- وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَشْخَاصُ أَهْلِهَا- مَعْنًى وَاحِدٌ، لَا مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٌ‏.‏ فَالْمَثَلُ لَهَا فِي مَعْنَى الْمَثَلِ لِلشَّخْصِ الْوَاحِدِ، مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَشْخَاصِ‏.‏

وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ‏:‏ مَثَلُ اسْتِضَاءَةِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَظْهَرُوهُ مِنَ الْإِقْرَارِ بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، قَوْلًا وَهُمْ بِهِ مُكَذِّبُونَ اعْتِقَادًا، كَمَثَلِ اسْتِضَاءَةِ الْمُوقِدِ نَارًا‏.‏ ثُمَّ أُسْقِطُ ذِكْرُ الِاسْتِضَاءَةِ، وَأُضِيفَ الْمَثَلُ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ نَابِغَةُ بَنِي جَعْدَةَ‏:‏

وَكَيْفَ تُوَاصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ *** خِلَالَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ

يُرِيدُ‏:‏ كَخِلَالَةِ أَبِي مَرْحَبٍ، فَأَسْقَطَ ‏"‏ خِلَالَةَ ‏"‏، إِذْ كَانَ فِيمَا أَظْهَرَ مِنَ الْكَلَامِ، دَلَالَةٌ لِسَامِعِيهِ عَلَى مَا حَذَفَ مِنْهُ‏.‏ فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا‏}‏، لِمَا كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ سَامِعِيهِ بِمَا أَظْهَرَ مِنَ الْكَلَامِ، أَنَّ الْمَثَلَ إِنَّمَا ضُرِبَ لِاسْتِضَاءَةِ الْقَوْمِ بِالْإِقْرَارِ دُونَ أَعْيَانِ أَجْسَامِهِمْ- حَسُنَ حَذْفُ ذِكْرِ الِاسْتِضَاءَةِ، وَإِضَافَةُ الْمَثَلِ إِلَى أَهْلِهِ‏.‏ وَالْمَقْصُودُ بِالْمَثَلِ مَا ذَكَرْنَا‏.‏ فَلَمَّا وَصَفْنَا، جَازَ وَحَسُنَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا‏}‏، وَيُشَبِّهُ مَثَلَ الْجَمَاعَةِ فِي اللَّفْظِ بِالْوَاحِدِ، إِذْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْمَثَلِ الْوَاحِدِ فِي الْمَعْنَى‏.‏

وَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ تَشْبِيهُ الْجَمَاعَةِ مِنْ أَعْيَانِ بَنِي آدَمَ- أَوْ أَعْيَانِ ذَوِي الصُّوَرِ وَالْأَجْسَامِ، بِشَيْءٍ- فَالصَّوَابُ مِنَ الْكَلَامِ تَشْبِيهُ الْجَمَاعَةِ بِالْجَمَاعَةِ، وَالْوَاحِدِ بِالْوَاحِدِ، لِأَنَّ عَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرُ أَعْيَانِ الْآخَرِينَ‏.‏

وَلِذَلِكَ مِنَ الْمَعْنَى، افْتَرَقَ الْقَوْلُ فِي تَشْبِيهِ الْأَفْعَالِ وَالْأَسْمَاءِ‏.‏ فَجَازَ تَشْبِيهُ أَفْعَالِ الْجَمَاعَةِ مِنَ النَّاسِ وَغَيْرِهِمْ- إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى وَاحِدٍ- بِفِعْلِ الْوَاحِدِ، ثُمَّ حَذْفُ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ وَإِضَافَةُ الْمَثَلِ وَالتَّشْبِيهِ إِلَى الَّذِينَ لَهُمُ الْفِعْلُ‏.‏ فَيُقَالُ‏:‏ مَا أَفْعَالُكُمْ إِلَّا كَفِعْلِ الْكَلْبِ، ثُمَّ يُحْذَفُ فَيُقَالُ‏:‏ مَا أَفْعَالُكُمْ إِلَّا كَالْكَلْبِ أَوْ كَالْكِلَابِ،- وَأَنْتَ تَعْنِي‏:‏ إِلَّا كَفِعْلِ الْكَلْبِ، وَإِلَّا كَفِعْلِ الْكِلَابِ‏.‏ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَقُولَ‏:‏ مَا هُمْ إِلَّا نَخْلَةٌ، وَأَنْتَ تُرِيدُ تَشْبِيهَ أَجْسَامِهِمْ بِالنَّخْلِ فِي الطُّولِ وَالتَّمَامِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏اسْتَوْقَدَ نَارًا‏}‏، فَإِنَّهُ فِي تَأْوِيلِ‏:‏ أَوْقَدَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

وَدَاعٍ دَعَا‏:‏ يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى *** فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ

يُرِيدُ‏:‏ فَلَمْ يُجِبْهُ‏.‏ فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا‏:‏ مَثَلُ اسْتِضَاءَةِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ- فِي إِظْهَارِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَصَدَّقْنَا بِمُحَمَّدٍ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَهُمْ لِلْكُفْرِ مُسْتَبْطِنُونَ- فِيمَا اللَّهُ فَاعِلٌ بِهِمْ مِثْلَ اسْتِضَاءَةِ مُوْقِدِ نَارٍ بِنَارِهِ، حَتَّى أَضَاءَتْ لَهُ النَّارُ مَا حَوْلَهُ، يَعْنِي‏:‏ مَا حَوْلَ الْمُسْتَوْقِدِ‏.‏

وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ‏:‏ أَنَّ ‏"‏الَّذِي‏"‏ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا‏}‏ بِمَعْنَى الَّذِينَ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الزُّمَرِ‏:‏ 33‏]‏، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

فَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ *** هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْقَوْلُ، لِمَا وَصَفْنَا مِنَ الْعِلَّةِ‏.‏ وَقَدْ أَغْفَلَ قَائِلُ ذَلِكَ فَرْقَ مَا بَيْنَ ‏"‏الَّذِي‏"‏ فِي الْآيَتَيْنِ وَفِي الْبَيْتِ‏.‏ لِأَنَّ ‏"‏الَّذِي‏"‏ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ‏}‏، قَدْ جَاءَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهَا الْجَمْعُ، وَهُوَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ‏}‏، وَكَذَلِكَ ‏"‏الَّذِي‏"‏ فِي الْبَيْتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ ‏"‏دِمَاؤُهُمْ ‏"‏‏.‏ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا‏}‏‏.‏ فَذَلِكَ فَرْقٌ مَا بَيْن‏"‏ الَّذِي ‏"‏فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا‏}‏، وَسَائِرِ شَوَاهِدِهِ الَّتِي اسْتَشْهَدَ بِهَا عَلَى أَنَّ مَعْنَى‏"‏ الَّذِي ‏"‏فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا‏}‏ بِمَعْنَى الْجِمَاعِ‏.‏ وَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ نَقْلَ الْكَلِمَةِ- الَّتِي هِيَ الْأَغْلَبُ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ عَلَى مَعْنَى- إِلَى غَيْرِهِ، إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَتْ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ‏.‏ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ أَقْوَالٌ‏:‏

أَحَدُهَا- مَا‏:‏

حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدٍِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ ضَرَبَ اللَّهُ لِلْمُنَافِقِينَ مَثَلًا فَقَالَ‏:‏ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ‏}‏ أَيْ يُبَصِرُونَ الْحَقَّ وَيَقُولُونَ بِهِ، حَتَّى إِذَا خَرَجُوا بِهِ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ أَطْفَئُوهُ بِكُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ فِيهِ، فَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ، فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ هُدَى وَلَا يَسْتَقِيمُونَ عَلَى حَقٍّ‏.‏ وَالْآخَرُ مَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا‏}‏ إِلَى آخَرِ الْآيَةِ‏:‏ هَذَا مَثَلٌ ضَرْبَهُ اللَّهُ لِلْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَزُّونَ بِالْإِسْلَامِ، فَيُنَاكِحُهُمَ الْمُسْلِمُونَ وَيُوَارِثُونَهُمْ وَيُقَاسِمُونَهُمُ الْفَيْءَ، فَلَمَّا مَاتُوا سَلَبَهُمُ اللَّهُ ذَلِكَ الْعِزَّ، كَمَا سَلَبَ صَاحِبَ النَّارِ ضَوءَهُ‏.‏ ‏{‏وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فِي عَذَابٍ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ مَا حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ‏}‏، زَعَمَ أَنَّ أُنَاسًا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ مَقْدِمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ نَافَقُوا، فَكَانَ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَ فِي ظُلْمَةٍ فَأَوْقَدَ نَارًا فَأَضَاءَتْ لَهُ مَا حَوْلَهُ مِنْ قَذًى أَوْ أَذًى فَأَبْصَرَهُ حَتَّى عَرَفَ مَا يَتَّقِي، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ، إِذْ طُفِئَتْ نَارُهُ، فَأَقْبَلَ لَا يَدْرِي مَا يَتَّقِي مِنْ أَذًى‏.‏ فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ‏:‏ كَانَ فِي ظُلْمَةِ الشِّرْكِ فَأَسَلَمَ، فَعَرَفَ الْحَلَالَ مِنَ الْحَرَامِ، وَالْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ كَفَرَ، فَصَارَ لَا يَعْرِفُ الْحَلَالَ مِنَ الْحَرَامِ، وَلَا الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ‏.‏ وَأَمَّا النُّورُ، فَالْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ وَكَانَتِ الظُّلْمَةُ نِفَاقُهُمْ‏.‏

وَالْآخَرُ‏:‏ مَا حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي سَعِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا‏}‏ إِلَى ‏{‏فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ‏}‏، ضَرَبَهُ اللَّهُ مَثَلًا لِلْمُنَافِقِ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ أَمَّا النُّورُ، فَهُوَ إِيمَانُهُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُونَ بِهِ‏.‏ وَأَمَّا الظُّلْمَةُ، فَهِيَ ضَلَالَتُهُمْ وَكُفْرُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِهِ، وَهُمْ قَوْمٌ كَانُوا عَلَى هُدًى ثُمَّ نُزِعَ مِنْهُمْ، فَعَتَوْا بَعْدَ ذَلِكَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ‏}‏، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ تَكَلَّمَ بِلَا إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ، فَأَضَاءَتْ لَهُ فِي الدُّنْيَا، فَنَاكَحَ بِهَا الْمُسْلِمِينَ، وَغَازَى بِهَا الْمُسْلِمِينَ، وَوَارَثَ بِهَا الْمُسْلِمِينَ، وَحُقِنَ بِهَا دَمُهُ وَمَالُهُ‏.‏ فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ، سُلِبَهَا الْمُنَافِقُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَصْلٌ فِي قَلْبِهِ، وَلَا حَقِيقَةٌ فِي عِلْمِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ‏}‏ هِيَ‏:‏ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَضَاءَتْ لَهُمْ فَأَكَلُوا بِهَا وَشَرِبُوا، وَأَمِنُوا فِي الدُّنْيَا، وَنَكَحُوا النِّسَاءَ، وَحَقَنُوا بِهَا دِمَاءَهُمْ، حَتَّى إِذَا مَاتُوا ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبُو تُمَيْلَةَ، عَنْ عَبِيدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ‏}‏، قَالَ‏:‏ أَمَّا النُّورُ، فَهُوَ إِيمَانُهُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُونَ بِهِ، وَأَمَّا الظُّلُمَاتُ، فَهِيَ ضَلَالَتُهُمْ وَكُفْرُهُمْ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ مَيْمُونٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ‏}‏، قَالَ‏:‏ أَمَّا إِضَاءَةُ النَّارِ، فَإِقْبَالُهُمْ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْهُدَى، وَذَهَابُ نُورِهِمْ، إِقْبَالُهُمْ إِلَى الْكَافِرِينَ وَالضَّلَالَةِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، عَنْ شِبْلٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ‏}‏، أَمَّا إِضَاءَةُ النَّارِ، فَإِقْبَالُهُمْ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْهُدَى، وَذَهَابُ نُورِهِمْ، إِقْبَالُهُمْ إِلَى الْكَافِرِينَ وَالضَّلَالَةِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ‏:‏ ضَرَبَ مَثَلَ أَهْلِ النِّفَاقِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا‏}‏، قَالَ‏:‏ إِنَّمَا ضَوْءُ النَّارِ وَنُورُهَا مَا أَوْقَدَتْهَا، فَإِذَا خَمَدَتْ ذَهَبَ نُورُهَا‏.‏ كَذَلِكَ الْمُنَافِقُ، كُلَّمَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ أَضَاءَ لَهُ، فَإِذَا شَكَّ وَقَعَ فِي الظُّلْمَةِ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا‏}‏ إِلَى آخَرِ الْآيَةِ، قَالَ‏:‏ هَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ‏.‏ كَانُوا قَدْ آمَنُوا حَتَّى أَضَاءَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ، كَمَا أَضَاءَتِ النَّارُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَوْقَدُوا، ثُمَّ كَفَرُوا فَذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ فَانْتَزَعَهُ، كَمَا ذَهَبَ بِضَوْءِ هَذِهِ النَّارِ، فَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ‏.‏

وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِالْآيَةِ مَا قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالضِّحَاكُ، وَمَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏.‏ وَذَلِكَ‏:‏ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا ضَرَبَ هَذَا الْمَثَلَ لِلْمُنَافِقِينَ- الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ وَقَصَّ قِصَصَهُمْ، مِنْ لَدُنِ ابْتَدَأَ بِذِكْرِهِمْ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏- لَا الْمُعْلِنِيْنَ بِالْكُفْرِ الْمُجَاهِرِينَ بِالشِّرْكِ‏.‏ وَلَوْ كَانَ الْمَثَلُ لِمَنْ آمَنَ إِيمَانًا صَحِيحًا ثُمَّ أَعْلَنَ بِالْكُفْرِ إِعْلَانًا صَحِيحًا- عَلَى مَا ظَنَّ الْمُتَأَوِّلُ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ‏}‏‏:‏ أَنَّ ضَوْءَ النَّارِ مَثَلٌ لِإِيمَانِهِمُ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ عِنْدَهُ عَلَى صِحَّةٍ، وَأَنَّ ذَهَابَ نُورِهِمْ مَثَلٌ لِارْتِدَادِهِمْ وَإِعْلَانِهِمُ الْكُفْرَ عَلَى صِحَّةٍ- لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مِنَ الْقَوْمِ خِدَاعٌ وَلَا اسْتِهْزَاءٌ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا نِفَاقٌ‏.‏ وَأَنَّى يَكُونُ خَدَّاعٌ وَنِفَاقٌ مِمَّنْ لَمْ يُبِدْ لَكَ قَوْلًا وَلَا فِعْلًا إِلَّا مَا أَوْجَبَ لَكَ الْعِلْمَ بِحَالِهِ الَّتِي هُوَ لَكَ عَلَيْهَا، وَبِعَزِيمَةِ نَفْسِهِ الَّتِي هُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهَا‏؟‏ إِنَّ هَذَا بِغَيْرِ شَكٍّ مِنَ النِّفَاقِ بَعِيدٌ، وَمِنَ الْخِدَاعِ بَرِيءٌ‏.‏ وَإِذْ كَانَ الْقَوْمُ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ إِلَّا حَالَتَانِ‏:‏ حَالُ إِيمَانٍ ظَاهِرٍ، وَحَالُ كَفْرٍ ظَاهِرٍ، فَقَدْ سَقَطَ عَنِ الْقَوْمِ اسْمُ النِّفَاقِ‏.‏ لِأَنَّهُمْ فِي حَالِ إِيمَانِهِمُ الصَّحِيحِ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَفِي حَالِ كَفْرِهِمُ الصَّحِيحِ كَانُوا كَافِرِينَ‏.‏ وَلَا حَالَةَ هُنَاكَ ثَالِثَةً كَانُوا بِهَا مُنَافِقِينَ‏.‏

وَفِي وَصْفِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِيَّاهُمْ بِصِفَةِ النِّفَاقِ، مَا يُنَبِّئُ عَنْ أَنَّ الْقَوْلَ غَيْرُ الْقَوْلِ الَّذِي زَعَمَهُ مَنْ زَعَمَ‏:‏ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، ثُمَّ ارْتَدُّوْا إِلَى الْكُفْرِ فَأَقَامُوا عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَائِلُ ذَلِكَ أَرَادَ أَنَّهُمُ انْتَقَلُوا مِنْ إِيمَانِهِمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، إِلَى الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ نِفَاقٌ‏.‏ وَذَلِكَ قَوْلٌ إِنْ قَالَهُ، لَمْ تُدْرَكْ صِحَّتُهُ إِلَّا بِخَبَرٍ مُسْتَفِيضٍ، أَوْ بِبَعْضِ الْمَعَانِي الْمُوجِبَةِ صِحَّتَهُ‏.‏ فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الْكِتَابِ فَلَا دَلَالَةَ عَلَى صِحَّتِهِ، لِاحْتِمَالِهِ مِنَ التَّأْوِيلِ مَا هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ‏.‏

فَإِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا فِي ذَلِكَ، فَأَوْلَى تَأْوِيلَاتِ الْآيَةِ بِالْآيَةِ‏:‏ مَثَلُ اسْتِضَاءَةِ الْمُنَافِقِينَ- بِمَا أَظْهَرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْإِقْرَارِ بِهِ، وَقَوْلِهِمْ لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ‏:‏ آمَنَّا بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، حَتَّى حُكِمَ لَهُمْ بِذَلِكَ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا بِحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ‏:‏ فِي حَقْنِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ، وَالْأَمْنِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ مِنَ السِّبَاءِ، وَفِي الْمُنَاكَحَةِ وَالْمُوَارَثَةِ- كَمَثَلِ اسْتِضَاءَةِ الْمُوْقِدِ النَّارَ بِالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ارْتَفَقَ بِضِيَائِهَا، وَأَبْصَرَ مَا حَوْلَهُ مُسْتَضِيئًا بِنُورِهِ مِنَ الظُّلْمَةِ، خَمَدَتِ النَّارُ وَانْطَفَأَتْ، فَذَهَبَ نُورُهُ، وَعَادَ الْمُسْتَضِيءُ بِهِ فِي ظُلْمَةٍ وَحَيْرَةٍ‏.‏

وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقَ لَمْ يَزَلْ مُسْتَضِيئًا بِضَوْءِ الْقَوْلِ الَّذِي دَافَعَ عَنْهُ فِي حَيَاتِهِ الْقَتْلَ وَالسِّبَاءَ، مَعَ اسْتِبْطَانِهِ مَا كَانَ مُسْتَوْجِبًا بِهِ الْقَتْلَ وَسَلْبَ الْمَالِ لَوْ أَظْهَرَهُ بِلِسَانِهِ- تُخَيِّلُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ نَفْسُهُ أَنَّهُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ مُسْتَهْزِئٌ مُخَادِعٌ، حَتَّى سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ- إِذْ وَرَدَ عَلَى رَبِّهِ فِي الْآخِرَةِ- أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُ بِمِثْلِ الَّذِي نَجَا بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْكَذِبِ وَالنِّفَاقِ‏.‏ أَوَمَا تَسْمَعُ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يَقُولُ إِذْ نَعَتَهُمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ خَبَّرَهُمْ عِنْدَ وَرَوْدِهِمْ عَلَيْهِ‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ‏:‏ 18‏]‏، ظَنًّا مِنَ الْقَوْمِ أَنَّ نَجَاتَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ، فِي مِثْلِ الَّذِي كَانَ بِهِ نَجَاؤُهُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالسِّبَاءِ وَسَلْبِ الْمَالِ فِي الدُّنْيَا‏:‏ مِنَ الْكَذِبِ وَالْإِفْكِ، وَأَنَّ خِدَاعَهُمْ نَافِعُهُمْ هُنَالِكَ نَفْعَهُ إِيَّاهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى عَايَنُوا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا أَيْقَنُوا بِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ ظُنُونِهِمْ فِي غُرُورٍ وَضَلَالٍ، وَاسْتِهْزَاءٍ بِأَنْفُسِهِمْ وَخِدَاعٍ، إِذْ أَطْفَأَ اللَّهُ نُورَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَاسْتَنْظَرُوا الْمُؤْمِنِينَ لِيَقْتَبِسُوا مِنْ نُورِهِمْ فَقِيلَ لَهُمْ‏:‏ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا وَاصْلَوْا سَعِيرًا‏.‏ فَذَلِكَ حِينَ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ، كَمَا انْطَفَأَتْ نَارُ الْمُسْتَوْقِدِ النَّارَ بَعْدَ إِضَاءَتِهَا لَهُ، فَبَقِيَ فِي ظُلْمَتِهِ حَيْرَانَ تَائِهًا، يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْحَدِيدِ‏:‏ 15‏]‏‏.‏

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ إِنَّكَ ذَكَرْتَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ ‏{‏كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ‏}‏‏:‏ خَمَدَتْ وَانْطَفَأَتْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَوْجُودٍ فِي الْقُرْآنِ‏.‏ فَمَا دَلَالَتُكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَعْنَاهُ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ قَدْ قُلْنَا إِنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ الْإِيجَازَ وَالِاخْتِصَارَ، إِذَا كَانَ فِيمَا نَطَقَتْ بِهِ الدَّلَالَةُ الْكَافِيَةُ عَلَى مَا حَذَفَتْ وَتَرَكَتْ، كَمَا قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ‏:‏

عَصَيْتُ إِلَيْهَا الْقَلْبَ، إِنِّي لِأَمْرِهَا *** سَمِيعٌ، فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلَابُهَا‏!‏

يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلَابُهَا أَمْ غَيٌّ، فَحَذَفَ ذِكْرَ ‏"‏ أَمْ غَيٌّ ‏"‏، إِذْ كَانَ فِيمَا نَطَقَ بِهِ الدَّلَالَةُ عَلَيْهَا، وَكَمَا قَالَ ذُو الرُّمَّةِ فِي نَعْتِ حَمِيرٍ‏:‏

فَلَمَّا لَبِسْنَ اللَّيْلَ، أَوْ حِينَ، نَصَّبَتْ *** لَهُ مِنْ خَذَا آذَانِهَا وَهْو جَانِحُ

يَعْنِي‏:‏ أَوْ حِينَ أَقْبَلَ اللَّيْلُ، فِي نَظَائِرَ لِذَلِكَ كَثِيرَةٍ، كَرِهْنَا إِطَالَةَ الْكِتَابِ بِذِكْرِهَا‏.‏ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ‏}‏، لَمَّا كَانَ فِيهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ‏}‏ دَلَالَةٌ عَلَى الْمَتْرُوكِ كَافِيَةٌ مِنْ ذِكْرِهِ- اخْتَصَرَ الْكَلَامَ طَلَبَ الْإِيجَازَ‏.‏

وَكَذَلِكَ حَذْفُ مَا حَذَفَ وَاخْتِصَارُ مَا اخْتَصَرَ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ مَثَلِ الْمُنَافِقِينَ بَعْدَهُ، نَظِيرَ مَا اخْتَصَرَ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ مَثَلِ الْمُسْتَوْقَدِ النَّارَ‏.‏ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ- بَعْدَ الضِّيَاءِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ فِي الدُّنْيَا بِمَا كَانُوا يُظْهِرُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الْإِقْرَارِ بِالْإِسْلَامِ وَهُمْ لِغَيْرِهِ مُسْتَبْطِنُونَ- كَمَا ذَهَبَ ضَوْءُ نَارِ هَذَا الْمُسْتَوْقَدِ، بِانْطِفَاءِ نَارِهِ وَخُمُودِهَا، فَبَقِيَ فِي ظُلْمَةٍ لَا يُبْصِرُ‏.‏

وَ ‏"‏الْهَاءُ وَالْمِيم‏"‏ فِي قَوْلِهِ ‏{‏ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ‏}‏، عَائِدَةٌ عَلَى ‏"‏الْهَاءِ وَالْمِيم‏"‏ فِي قَوْلِهِ ‏"‏ مَثَلُهُمْ ‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَإِذْ كَانَ تَأْوِيلُ قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ‏}‏، هُوَ مَا وَصَفْنَا- مِنْ أَنَّ ذَلِكَ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَمَّا هُوَ فَاعِلٌ بِالْمُنَافِقِينَ فِي الْآخِرَةِ، عِنْدَ هَتْكِ أَسْتَارِهِمْ، وَإِظْهَارِهِ فَضَائِحَ أَسْرَارِهِمْ، وَسَلْبِهِ ضِيَاءَ أَنْوَارِهِمْ، مِنْ تَرْكِهِمْ فِي ظُلَمِ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَتَرَدَّدُونَ، وَفِي حَنَادِسِهَا لَا يُبْصِرُونَ- فَبَيِّنٌ أَنَّ قَوْلَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ‏}‏ مِنَ الْمُؤَخَّرِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْدِيمُ، وَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ، مَثَّلَهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ، أَوْ كَمَثَلِ صَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ‏.‏

وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ فَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ‏}‏، يَأْتِيهِ الرَّفْعُ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَالنُّصْبُ مِنْ وَجْهَيْنِ‏:‏

فَأَمَّا أَحَدُ وَجْهَيِ الرَّفْعِ‏:‏ فَعَلَى الِاسْتِئْنَافِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الذَّمِّ‏.‏ وَقَدْ تَفْعَلُ الْعَرَبُ ذَلِكَ فِي الْمَدْحِ وَالذَّمِّ، فَتَنْصِبُ وَتَرْفَعُ، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ مَعْرِفَةٍ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

لَا يَبْعَدَنْ قَوْمِي الَّذِينَ هُمُ *** سَمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةُ الْجُزْرِ

النَّازِلِينَ بِكُلِّ مُعْتَرَكٍ *** وَالطَّيِّبِينَ مَعَاقِدَ الْأُزْرِ

فَيُرْوَى‏:‏ ‏"‏النَّازِلُون‏"‏ وَ‏"‏ النَّازِلِينَ ‏"‏، وَكَذَلِكَ ‏"‏الطَّيِّبُون‏"‏ وَ‏"‏ الطَّيِّبِينَ ‏"‏، عَلَى مَا وَصَفْتُ مِنَ الْمَدْحِ‏.‏

وَالْوَجْهُ الْآخَرُ‏:‏ عَلَى نِيَّةِ التَّكْرِيرِ مِنْ ‏"‏ أُولَئِكَ ‏"‏، فَيَكُونُ الْمَعْنِيَّ حِينَئِذٍ‏:‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ، أُولَئِكَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ‏.‏

وَأَمَّا أَحَدُ وَجْهَيِ النَّصْبِ‏:‏ فَأَنْ يَكُونَ قَطْعًا مِمَّا فِي ‏"‏مُهْتَدِين‏"‏ مِنْ ذِكْرِ ‏"‏ أُولَئِكَ ‏"‏، لِأَنَّ الَّذِي فِيهِ مِنْ ذِكْرِهِمْ مَعْرِفَةً، وَالصُّمُّ نَكِرَةٌ‏.‏

وَالْآخَرُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ قَطْعًا مِنَ ‏"‏الَّذِينَ ‏"‏، لِأَن‏"‏ الَّذِينَ ‏"‏مَعْرِفَةٌ وَ‏"‏ الصُّم‏"‏ نَكِرَةٌ‏.‏

وَقَدْ يَجُوزُ النَّصْبُ فِيهِ أَيْضًا عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ وَجْهًا مِنَ النَّصْبِ ثَالِثًا‏.‏

فَأَمَّا عَلَى تَأْوِيلِ مَا رَوَيْنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ غَيْرِ وَجْهِ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعُ إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الِاسْتِئْنَافُ‏.‏

وَأَمَّا النَّصْبُ فَقَدْ يَجُوزُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ الذَّمُّ، وَالْآخَرُ‏:‏ الْقَطْعُ مِنْ ‏"‏الْهَاءِ وَالْمِيم‏"‏ اللَّتَيْنِ فِي ‏"‏تَرْكِهِمْ ‏"‏، أَوْ مِنْ ذِكْرِهِمْ فِي‏"‏ لَا يُبْصِرُونَ ‏"‏‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا الْقَوْلَ الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ‏.‏ وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي هِيَ الْقِرَاءَةُ، الرَّفْعُ دُونَ النَّصْبِ‏.‏ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ خِلَافُ رُسُومِ مَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ‏.‏ وَإِذَا قُرِئَ نَصْبًا كَانَتْ قِرَاءَةً مُخَالَفَةً رَسْمَ مَصَاحِفِهِمْ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ‏:‏ أَنَّهُمْ بِاشْتِرَائِهِمُ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى لَمْ يَكُونُوا لِلْهُدَى وَالْحَقِّ مُهْتَدِينَ، بَلْ هُمْ صُمٌّ عَنْهُمَا فَلَا يَسْمَعُونَهُمَا، لِغَلَبَةِ خِذْلَانِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، بُكْمٌ عَنِ الْقِيلِ بِهِمَا فَلَا يَنْطِقُونَ بِهِمَا- وَالْبُكْمُ‏:‏ الْخُرْسُ، وَهُوَ جِمَاعُ أَبْكَمَ- عُمْيٌ عَنْ أَنْ يُبْصِرُوهُمَا فَيَعْقِلُوهُمَا، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِنِفَاقِهِمْ فَلَا يَهْتَدُونَ‏.‏

وَبِمَثَلِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ عُلَمَاءُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدٍِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ‏}‏، عَنِ الْخَيْرِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لَا يَسْمَعُونَ الْهُدَى وَلَا يُبْصِرُونَهُ وَلَا يَعْقِلُونَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏ بُكُمٌ ‏"‏، هُمُ الْخُرْسُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ ‏{‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ‏}‏‏:‏ صُمٌّ عَنِ الْحَقِّ فَلَا يَسْمَعُونَهُ، عُمْيٌ عَنِ الْحَقِّ فَلَا يُبْصِرُونَهُ، بُكْمٌ عَنِ الْحَقِّ فَلَا يَنْطِقُونَ بِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَقَوْلُهُ ‏{‏فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ‏}‏، إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ- الَّذِينَ نَعَتَهُمُ اللَّهُ بِاشْتِرَائِهِمُ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى، وَصَمَمِهِمْ عَنْ سَمَاعِ الْخَيْرِ وَالْحَقِّ، وَبَكَمِهِمْ عَنِ الْقِيلِ بِهِمَا، وَعَمَاهُمْ عَنْ إِبْصَارِهِمَا- أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى الْإِقْلَاعِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ، وَلَا يَتُوبُونَ إِلَى الْإِنَابَةِ مِنْ نِفَاقِهِمْ‏.‏ فَآيَسَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ أَنْ يُبْصِرَ هَؤُلَاءِ رُشْدًا، أَوْ يَقُولُوا حَقًّا، أَوْ يَسْمَعُوا دَاعِيًا إِلَى الْهُدَى، أَوْ أَنْ يذَّكَّرُوا فَيَتُوبُوا مِنْ ضَلَالَتِهِمْ، كَمَا آيَسَ مِنْ تَوْبَةِ قَادَةِ كُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَأَحْبَارِهِمُ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُ قَدْ خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَغَشَّى عَلَى أَبْصَارِهِمْ‏.‏ وَبِمَثَلِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ‏}‏، أَيْ‏:‏ لَا يَتُوبُونَ وَلَا يذَّكَّرُونَ‏.‏

وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ‏}‏‏:‏ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ‏.‏

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلٌ يُخَالِفُ مَعْنَاهُ مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ، وَهُوَ مَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدٍِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ‏}‏، أَيْ‏:‏ فَلَا يَرْجِعُونَ إِلَى الْهُدَى وَلَا إِلَى خَيْرٍ، فَلَا يُصِيبُونَ نَجَاةً مَا كَانُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ‏.‏

وَهَذَا تَأْوِيلٌ ظَاهِرُ التِّلَاوَةِ بِخِلَافِهِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ عَنِ الْقَوْمِ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ- عَنِ اشْتِرَائِهِمُ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى- إِلَى ابْتِغَاءِ الْهُدَى وَإِبْصَارِ الْحَقِّ، مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ مِنْهُ جَلَّ ذِكْرُهُ ذَلِكَ مِنْ حَالِهِمْ عَلَى وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَحَالٍ دُونَ حَالٍ‏.‏ وَهَذَا الْخَبَرُ الَّذِي ذَكَّرْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، يُنْبِئُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَتِهِمْ مَحْصُورٌ عَلَى وَقْتٍ وَهُوَ مَا كَانُوا عَلَى أَمْرِهِمْ مُقِيمِينَ، وَأَنَّ لَهُمُ السَّبِيلَ إِلَى الرُّجُوعِ عَنْهُ‏.‏ وَذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلِ دَعْوَى بَاطِلَةٌ، لَا دَلَالَةَ عَلَيْهَا مِنْ ظَاهِرٍ وَلَا مِنْ خَبَرٍ تَقُومُ بِمِثْلِهِ الْحُجَّةُ فَيُسَلَّمُ لَهَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّيِّبُ الْفَيْعِلُ مِنْ قَوْلِكَ‏:‏ صَابَ الْمَطَرُ يَصُوبُ صَوْبًا، إِذَا انْحَدَرَ وَنَزَلَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

فَلَسْتُ لِإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لَمَلْأَكٍ *** تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ

وَكَمَا قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبَدَةَ‏:‏

كَأَنَّهُمُ صَابَتْ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ *** صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ

فَلَا تَعْدِلِي بَيْنِي وَبَيْنَ مُغَمَّرٍ، *** سُقِيتِ رَوَايَا الْمُزْنِ حِينَ تَصُوبُ

يَعْنِي‏:‏ حِينَ تَنْحَدِرُ‏.‏ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ ‏"‏ صَيْوِبٌ ‏"‏، وَلَكِنَّ الْوَاوَ لَمَّا سَبَقَتْهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ، صُيِّرَتَا جَمِيعًا يَاءً مُشَدَّدَةً، كَمَا قِيلَ‏:‏ سَيِّدٌ، مِنْ سَادَ يَسُودُ، وَجَيِّدٌ، مَنْ جَادَ يَجُودُ‏.‏ وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ بِالْوَاوِ إِذَا كَانَتْ مُتَحَرِّكَةً وَقَبْلَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ، تُصَيِّرُهُمَا جَمِيعًا يَاءً مُشَدَّدَةً‏.‏

وَبِمَا قُلْنَا مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَحْمَسِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَنْتَرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ ‏{‏أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْقَطْرُ‏.‏

حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيجٍ، قَالَ لِي عَطَاءٌ‏:‏ الصَّيِّبُ، الْمَطَرُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ الصَّيِّبُ، الْمَطَرُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنْ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ الصَّيِّبُ، الْمَطَرُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي الْحُسَيْنُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ‏.‏

وَحَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏أَوْ كَصَيِّبٍ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ الْمَطَرُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَا حَدَّثْنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ الصَّيِّبُ، الرَّبِيعُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ الصَّيِّبُ، الْمَطَرُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ‏:‏ الصَّيِّبُ، الْمَطَرُ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ الصَّيِّبُ، الْمَطَرُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏{‏أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ قَالَ‏:‏ أَوْ كَغَيْثٍ مِنَ السَّمَاءِ‏.‏

حَدَّثَنَا سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَنْبَرِيُّ، قَالَ‏:‏ قَالَ سُفْيَانُ‏:‏ الصَّيِّبُ، الَّذِي فِيهِ الْمَطَرُ‏.‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْمَطَرُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ‏:‏ مَثَلُ اسْتِضَاءَةِ الْمُنَافِقِينَ بِضَوْءِ إِقْرَارِهِمْ بِالْإِسْلَامِ، مَعَ اسْتِسْرَارِهِمُ الْكُفْرَ، مَثَلُ إِضَاءَةِ مُوقِدِ نَارٍ بِضَوْءِ نَارِهِ، عَلَى مَا وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مِنْ صِفَتِهِ، أَوْ كَمَثَلِ مَطَرٍ مُظْلِمٍ وَدْقُهُ تَحَدَّرَ مِنَ السَّمَاءِ، تَحْمِلُهُ مُزْنَةٌ ظَلْمَاءُ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ‏.‏ وَذَلِكَ هُوَ الظُّلُمَاتُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهَا فِيهِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ أَخْبِرْنَا عَنْ هَذَيْنَ الْمَثَلَيْنِ‏:‏ أَهُمَا مَثَلَانِ لِلْمُنَافِقِينَ، أَوْ أَحَدُهُمَا‏؟‏ فَإِنْ يَكُونَا مَثَلَيْنِ لِلْمُنَافِقِينَ، فَكَيْفَ قِيلَ‏:‏ ‏"‏أَوْ كَصَيِّبٍ ‏"‏، وَ‏"‏ أَو‏"‏ تَأْتِي بِمَعْنَى الشَّكِّ فِي الْكَلَامِ، وَلَمْ يَقُلْ ‏"‏وَكَصَيِّب‏"‏ بِالْوَاوِ الَّتِي تُلْحِقُ الْمَثَلَ الثَّانِيَ بِالْمَثَلِ الْأَوَّلِ‏؟‏ أَوْ يَكُونُ مَثَلُ الْقَوْمِ أَحَدُهُمَا، فَمَا وَجْهُ ذِكْرِ الْآخَرِ بِ ‏"‏أَوْ‏"‏‏؟‏ وَقَدْ عَلِمْتَ أَن‏"‏ أَوْ ‏"‏إِذَا كَانَتْ فِي الْكَلَامِ فَإِنَّمَا تَدَخُلُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الشَّكِّ مِنَ الْمُخْبِرِ فِيمَا أَخْبَرَ عَنْهُ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏"‏ لَقِيَنِي أَخُوكَ أَوْ أَبُوكَ ‏"‏ وَإِنَّمَا لَقِيَهُ أَحَدُهُمَا، وَلَكِنَّهُ جَهِلَ عَيْنَ الَّذِي لَقِيَهُ مِنْهُمَا، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ لَقِيَهُ‏.‏ وَغَيْرُ جَائِزٍ فِيهِ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ الشَّكُّ فِي شَيْءٍ، أَوْ عُزُوبِ عِلْمِ شَيْءٍ عَنْهُ، فِيمَا أَخْبَرَ أَوْ تَرَكَ الْخَبَرَ عَنْهُ‏.‏

قِيلَ لَهُ‏:‏ إِنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ الَّذِي ذَهَبَتْ إِلَيْهِ‏.‏ وَ‏"‏ أَوْ ‏"‏- وَإِنْ كَانَتْ فِي بَعْضِ الْكَلَامِ تَأْتِي بِمَعْنَى الشَّكِّ- فَإِنَّهَا قَدْ تَأْتِي دَالَّةً عَلَى مَثَلِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْوَاوُ، إِمَّا بِسَابِقٍ مِنَ الْكَلَامِ قَبْلَهَا، وَإِمَّا بِمَا يَأْتِي بَعْدَهَا، كَقَوْلِ تَوْبَةُ بْنُ الْحُمَيِّرِ‏:‏

وَقَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بِأَنِّي فَاجِرٌ *** لِنَفْسِي تُقَاهَا أَوْ عَلَيْهَا فُجُورُهَا

وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَوْبَةٍ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الشَّكِّ فِيمَا قَالَ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ ‏"‏أَو‏"‏ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ دَالَّةً عَلَى مِثْلِ الَّذِي كَانَتْ تَدُلُّ عَلَيْهِ ‏"‏الْوَاو‏"‏ لَوْ كَانَتْ مَكَانَهَا، وَضَعَهَا مَوْضِعَهَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُ جَرِيرٍ‏:‏

نَالَ الْخِلَافَةَ أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا، *** كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ

وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ‏:‏

فَلَوْ كَانَ الْبُكَاءُ يَرُدُّ شَيْئًا *** بَكَيْتُ عَلَى بُجَيْرٍ أَوْ عِفَاقِ

عَلَى الْمَرْأَيْنِ إِذْ مَضَيا جَمِيعًا *** لِشَأْنِهِمَا، بِحُزْنٍ وَاشْتِيَاقِ

فَقَدْ دَلَّ بِقَوْلِهِ ‏"‏عَلَى الْمَرْأَيْنِ إِذْ مَضَيَا جَمِيعًا‏"‏ أَنَّ بُكَاءَهُ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَبْكِيَهُ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ، بَلْ أَرَادَ أَنْ يَبْكِيَهُمَا جَمِيعًا‏.‏ فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏"‏أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ‏"‏‏.‏ لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا أَن‏"‏ أَوْ ‏"‏دَالَّةٌ فِي ذَلِكَ عَلَى مَثَلِ الَّذِي كَانَتْ تَدُلُّ عَلَيْه‏"‏ الْوَاوُ ‏"‏لَوْ كَانَتْ مَكَانَهَا- كَانَ سَوَاءً نُطْقٌ فِيهِ ب‏"‏ أَوْ ‏"‏أَوْ بِـ‏"‏ الْوَاوِ ‏"‏‏.‏ وَكَذَلِكَ وَجْهُ حَذْفِ ‏"‏الْمَثَل‏"‏ مِنْ قَوْلِهِ ‏{‏أَوْ كَصَيِّبٍ‏}‏‏.‏ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا‏}‏ دَالًّا عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ كَمَثَلِ صَيِّبٍ، حَذَف‏"‏ الْمَثَلَ ‏"‏، وَاكْتَفَى- بِدَلَالَةِ مَا مَضَى مِنَ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا‏}‏ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ أَوْ كَمَثَلِ صَيِّبٍ- مِنْ إِعَادَةِ ذِكْرِ الْمَثَلِ، طَلَبَ الْإِيجَازَ وَالِاخْتِصَارَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَأَمَّا الظُّلُمَاتُ، فَجَمْعٌ، وَاحِدُهَا ظُلْمَةٌ‏.‏

أَمَّا الرَّعْدُ، فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِيهِ‏:‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُوَ مَلِكٌ يَزْجُرُ السَّحَابَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ‏:‏ الرَّعْدُ، مَلِكٌ يَزْجُرُ السَّحَابَ بِصَوْتِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ طَلْحَةَ الْيَرْبُوعِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ‏:‏ أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ الرَّعْدُ، مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُسَبِّحُ‏.‏

حَدَّثَنِي نَصْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَزْدِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْلَى، عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، قَالَ‏:‏ الرَّعْدُ، مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ يَسُوقُهُ، كَمَا يَسُوقُ الْحَادِي الْإِبِلَ، يُسَبِّحُ‏.‏ كُلَّمَا خَالَفَتْ سَحَابَةٌ سَحَابَةً صَاحَ بِهَا، فَإِذَا اشْتَدَّ غَضَبُهُ طَارَتِ النَّارُ مِنْ فِيهِ، فَهِيَ الصَّوَاعِقُ الَّتِي رَأَيْتُمْ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ الرَّعْدُ، مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ اسْمُهُ الرَّعْدُ، وَهُوَ الَّذِي تَسْمَعُونَ صَوْتَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ الرَّعْدُ، مَلَكَ يَزْجُرُ السَّحَابَ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ‏.‏

وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ الرَّعْدُ اسْمُ مَلَكٍ، وَصَوْتُهُ هَذَا تَسْبِيحُهُ، فَإِذَا اشْتَدَّ زَجْرُهُ السَّحَابَ، اضْطَرَبَ السَّحَابُ وَاحْتَكَّ‏.‏ فَتَخْرُجُ الصَّوَاعِقُ مِنْ بَيْنِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَفَّانُ‏.‏ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُوسَى الْبَزَّارِ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ الرَّعْدُ مَلَكٌ يَسُوقُ السَّحَابَ بِالتَّسْبِيحِ، كَمَا يَسُوقُ الْحَادِي الْإِبِلَ بِحُدَائِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ، وَشَبَابَةُ، قَالَا حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ‏:‏ الرَّعْدُ مَلَكٌ يَزْجُرُ السَّحَابَ‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَتَّابُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ‏:‏ الرَّعْدُ مَلَكٌ فِي السَّحَابِ، يَجْمَعُ السَّحَابَ كَمَا يَجْمَعُ الرَّاعِي الْإِبِلَ‏.‏

وَحَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ‏:‏ الرَّعْدُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ، سَامِعٌ مُطِيعٌ لِلَّهِ جَلَّ وَعَزَّ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ‏:‏ إِنِ الرَّعْدَ مَلَكٌ يُؤْمَرُ بِإِزْجَاءِ السَّحَابِ فَيُؤَلِّفُ بَيْنَهُ، فَذَلِكَ الصَّوْتُ تَسْبِيحُهُ‏.‏

وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ‏:‏ الرَّعْدُ مَلَكٌ‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَوْ غَيْرِهِ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ‏:‏ الرَّعْدُ‏:‏ مَلَكٌ‏.‏

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ سَالِمٍ أَبُو جَهْضَمٍ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ كَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَبِي الْجَلْدِ يَسْأَلُهُ عَنِ الرَّعْدِ، فَقَالَ‏:‏ الرَّعْدُ مَلَكٌ‏.‏

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْوَلِيدِ الشَّنِّيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ‏:‏ الرَّعْدُ مَلَكٌ يَسُوقُ السَّحَابَ كَمَا يَسُوقُ الرَّاعِي الْإِبِلَ‏.‏

حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ‏:‏ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ، قَالَ‏:‏ سُبْحَانَ الَّذِي سَبَّحَتْ لَهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَكَانَ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ الرَّعْدَ مَلَكٌ يَنْعَقُ بِالْغَيْثِ كَمَا يَنْعَقُ الرَّاعِي بِغَنَمِهِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ إِنِ الرَّعْدَ رِيحٌ تَخْتَنِقُ تَحْتَ السَّحَابِ فَتَصَّاعَدُ، فَيَكُونُ مِنْهُ ذَلِكَ الصَّوْتُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ‏:‏ كُنْتُ عِنْدَ أَبِي الْجَلْدِ، إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِكِتَابٍ إِلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ‏:‏ ‏"‏ كَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الرَّعْدِ، فَالرَّعْدُ الرِّيحُ‏.‏

حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْفُرَاتِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ‏:‏ كَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَبِي الْجَلْدِ يَسْأَلُهُ عَنِ الرَّعْدِ، فَقَالَ‏:‏ الرَّعْدُ رِيحٌ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَإِنْ كَانَ الرَّعْدُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ، فَمَعْنَى الْآيَةِ‏:‏ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَصَوْتُ رَعْدٍ‏.‏ لِأَنَّ الرَّعْدَ إِنْ كَانَ مَلَكًا يَسُوقُ السَّحَابَ، فَغَيْرُ كَائِنٍ فِي الصَّيِّبِ، لِأَنَّ الصَّيِّبَ إِنَّمَا هُوَ مَا تَحَدَّرَ مِنْ صَوْبِ السَّحَابِ، وَالرَّعْدُ إِنَّمَا هُوَ فِي جَوِّ السَّمَاءِ يَسُوقُ السَّحَابَ‏.‏ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِ ثَمَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَوْتٌ مَسْمُوعٌ، فَلَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ رُعْبٌ يُرْعَبُ بِهِ أَحَدٌ‏.‏ لِأَنَّهُ قَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّ مَعَ كُلِّ قَطْرَةٍ مِنْ قَطْرِ الْمَطَرِ مَلَكًا، فَلَا يَعْدُو الْمَلَكُ الَّذِي اسْمُهُ ‏"‏الرَّعْدُ ‏"‏، لَوْ كَانَ مَعَ الصَّيِّبِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ مَسْمُوعًا صَوْتُهُ، أَنْ يَكُونَ كَبَعْضِ تِلْكَ الْمَلَائِكَةِ الَّتِي تَنْزِلُ مَعَ الْقَطْرِ إِلَى الْأَرْضِ، فِي أَنْ لَا رُعْبَ عَلَى أَحَدٍ بِكَوْنِهِ فِيهِ‏.‏ فَقَدْ عُلِمَ- إِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ- أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ‏:‏ أَوْ كَمَثَلِ غَيْثٍ تَحَدَّرَ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَصَوْتُ رَعْدٍ، إِنْ كَانَ الرَّعْدُ هُوَ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَنَّهُ اسْتَغْنَى بِدَلَالَةِ ذِكْرِ الرَّعْدِ بِاسْمِهِ عَلَى الْمُرَادِ فِي الْكَلَامِ مِنْ ذِكْرِ صَوْتِهِ‏.‏ وَإِنْ كَانَ الرَّعْدُ مَا قَالَهُ أَبُو الْجَلْدِ، فَلَا شَيْءَ فِي قَوْلِهِ ‏{‏فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ‏}‏ مَتْرُوكٌ‏.‏ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ‏:‏ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ الَّذِي هُوَ مَا وَصَفْنَا صِفَتَهُ‏.‏

وَأَمَّا الْبَرْقُ، فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِيهِ‏:‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنَا مَطَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الضَّبِّيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ،- ح- وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ،- ح- وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالُوا جَمِيعًا‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَشْوَعَ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ الْأَبْيَضِ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ‏:‏ الْبَرْقُ‏:‏ مَخَارِيقُ الْمَلَائِكَةِ‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ الْبَرْقُ مَخَارِيقُ بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ، يَزْجُرُونَ بِهَا السَّحَابَ‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَوْ غَيْرِهِ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ‏:‏ الرَّعْدُ الْمَلَكُ، وَالْبَرْقُ ضَرْبُهُ السَّحَابَ بِمِخْرَاقٍ مِنْ حَدِيدٍ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هُوَ سَوْطٌ مِنْ نُورٍ يُزْجِي بِهِ الْمَلَكُ السَّحَابَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِذَلِكَ‏.‏ وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هُوَ مَاءٌ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ‏:‏ كُنْتُ عِنْدَ أَبِي الْجَلْدِ، إِذْ جَاءَ رَسُولُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِكِتَابٍ إِلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ‏:‏ ‏"‏ كَتَبْتَ إِلَيَّ تَسْأَلُنِي عَنِ الْبَرْقِ، فَالْبَرْقُ الْمَاءُ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْفُرَاتِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ‏:‏ كَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَبِي الْجَلْدِ يَسْأَلُهُ عَنِ الْبَرْقِ، فَقَالَ‏:‏ الْبَرْقُ مَاءٌ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ رَجُلٍ، مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مِنْ قُرَّائِهِمْ، قَالَ‏:‏ كَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَبِي الْجَلْدِ- رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ هَجَرَ- يَسْأَلُهُ عَنِ الْبَرْقِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ‏:‏ ‏"‏ كَتَبْتَ إِلَيَّ تَسْأَلُنِي عَنِ الْبَرْقِ، وَإِنَّهُ مِنَ الْمَاءِ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هُوَ مَصْعُ مَلَكٍ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ‏:‏ الْبَرْقُ، مَصْعُ مَلَكٍ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيِّ، قَالَ‏:‏ بَلَغَنِي أَنَّ الْبَرْقَ مَلَكٌ لَهُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، وَجْهُ إِنْسَانٍ، وَوَجْهُ ثَوْرٍ، وَوَجْهُ نَسْرٍ، وَوَجْهُ أَسَدٍ، فَإِذَا مَصَعَ بِأَجْنِحَتِهِ فَذَلِكَ الْبَرْقُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ شُعَيْبٍ الْجُبَّائِيِّ قَالَ‏:‏ فِي كِتَابِ اللَّهِ‏:‏ الْمَلَائِكَةُ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، لِكُلِّ مَلَكٍ مِنْهُمْ وَجْهُ إِنْسَانٍ وَثَوْرٍ وَأَسَدٍ، فَإِذَا حَرَّكُوا أَجْنِحَتَهُمْ فَهُوَ الْبَرْقُ‏.‏ وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ‏:‏

رَجُلٌ وَثَوْرٌ تَحْتَ رِجْلِ يَمِينِهِ *** وَالنَّسْرُ لِلْأُخْرَى، وَلَيْثٌ مُرْصِدُ

حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ الْبَرْقُ مَلَكٌ‏.‏

وَقَدْ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ الصَّوَاعِقُ مَلَكٌ يَضْرِبُ السَّحَابَ بِالْمَخَارِيقِ، يُصِيبُ مِنْهُ مَنْ يَشَاءُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ‏.‏ وَذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْمَخَارِيقُ الَّتِي ذَكَرَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا هِيَ الْبَرْقُ، هِيَ السِّيَاطُ الَّتِي هِيَ مِنْ نُورٍ، الَّتِي يُزْجِي بِهَا الْمَلَكُ السَّحَابَ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏.‏ وَيَكُونُ إِزْجَاءُ الْمَلَكِ بِهَا السَّحَابَ، مَصْعَهُ إِيَّاهُ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ الْمِصَاعَ عِنْدَ الْعَرَبِ، أَصْلُهُ‏:‏ الْمُجَالَدَةُ بِالسُّيُوفِ، ثُمَّ تَسْتَعْمِلُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ جُولِدَ بِهِ فِي حَرْبٍ وَغَيْرِ حَرْبٍ، كَمَا قَالَ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ، وَهُوَ يَصِفُ جَوَارِيَ يَلْعَبْنَ بِحُلِيِّهِنَّ وَيُجَالِدْنَ بِهِ‏.‏

إِذَا هُنَّ نَازَلْنَ أَقَرَانَهُنَّ *** وَكَانَ الْمِصَاعُ بِمَا فِي الْجُوَنْ

يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ مَاصَعَهُ مِصَاعًا‏.‏ وَكَأَنَّ مُجَاهِدًا إِنَّمَا قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَصْعُ مَلَكٍ ‏"‏، إِذْ كَانَ السَّحَابُ لَا يُمَاصِعُ الْمَلَكَ، وَإِنَّمَا الرَّعْدُ هُوَ الْمُمَاصِعُ لَهُ، فَجَعَلَهُ مَصْدَرًا مِنْ مَصَعَهُ يَمْصَعُهُ مَصْعًا‏.‏

وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِي مَعْنَى ‏"‏الصَّاعِقَة‏"‏- مَا قَالَ شَهْرُ بْنُ حَوشَبٍ فِيمَا مَضَى‏.‏

وَأَمَّا تَأْوِيلُ الْآيَةِ، فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ‏:‏

فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ‏:‏ أَحُدُّهَا‏:‏ مَا حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ‏}‏‏:‏ أَيْ هُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْحَذَرِ مِنَ الْقَتْلِ- عَلَى الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْخِلَافِ وَالتَّخْوِيفِ مِنْكُمْ- عَلَى مَثَلِ مَا وُصِفَ مِنَ الَّذِي هُوَ فِي ظُلْمَةِ الصَّيِّبِ، فَجَعَلَ أَصَابِعَهُ فِي أُذُنَيْهِ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ، يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ- أَيْ لِشِدَّةِ ضَوْءِ الْحَقِّ- كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا، أَيْ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَيَتَكَلَّمُونَ بِهِ، فَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ بِهِ عَلَى اسْتِقَامَةٍ، فَإِذَا ارْتَكَسُوا مِنْهُ إِلَى الْكُفْرِ قَامُوا مُتَحَيِّرِينَ‏.‏

وَالْآخَرُ‏:‏ مَا حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ‏{‏أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ‏}‏ إِلَى ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏، أَمَّا الصَّيِّبُ فَالْمَطَرُ‏.‏ كَانَ رَجُلَانِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ هَرَبَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَأَصَابَهُمَا هَذَا الْمَطَرُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِيهِ رَعْدٌ شَدِيدٌ وَصَوَاعِقُ وَبَرْقٌ، فَجَعَلَا كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمَا الصَّوَاعِقُ جَعَلَا أَصَابِعَهُمَا فِي آذَانِهِمَا، مِنَ الْفَرَقِ أَنْ تَدْخُلَ الصَّوَاعِقُ فِي مَسَامِعِهِمَا فَتَقْتُلُهُمَا‏.‏ وَإِذَا لَمَعَ الْبَرْقُ مَشَيَا فِي ضَوْئِهِ، وَإِذَا لَمْ يَلْمَعْ لَمْ يُبْصِرَا وَقَامَا مَكَانَهُمَا لَا يَمْشِيَانِ، فَجَعَلَا يَقُولَانِ‏:‏ لَيْتَنَا قَدْ أَصْبَحْنَا فَنَأْتِيَ مُحَمَّدًا فَنَضَعَ أَيْدِيَنَا فِي يَدِهِ‏.‏ فَأَصْبَحَا، فَأَتَيَاهُ فَأَسْلَمَا، وَوَضَعَا أَيْدِيَهُمَا فِي يَدِهِ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمَا‏.‏ فَضَرَبَ اللَّهُ شَأْنَ هَذَيْنَ الْمُنَافِقَيْنِ الْخَارِجَيْنِ مَثَلًا لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ بِالْمَدِينَةِ‏.‏ وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ إِذَا حَضَرُوا مَجْلِسَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ، فَرَقًا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يَنْزِلَ فِيهِمْ شَيْءٌ أَوْ يُذْكَرُوا بِشَيْءٍ فَيُقْتَلُوا، كَمَا كَانَ ذَانِكَ الْمُنَافِقَانِ الْخَارِجَانِ يَجْعَلَانِ أَصَابِعَهُمَا فِي آذَانِهِمَا، وَإِذَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ‏.‏ فَإِذَا كَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَوُلِدَ لَهُمُ الْغِلْمَانُ، وَأَصَابُوا غَنِيمَةً أَوْ فَتْحًا، مَشَوْا فِيهِ، وَقَالُوا‏:‏ إِنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينُ صِدْقٍ‏.‏ فَاسْتَقَامُوا عَلَيْهِ، كَمَا كَانَ ذَانِكَ الْمُنَافِقَانِ يَمْشِيَانِ، إِذَا أَضَاءَ لَهُمُ الْبَرْقُ مَشَوْا فِيهِ، وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا‏.‏ فَكَانُوا إِذَا هَلَكَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَوُلِدَ لَهُمُ الْجَوَارِي، وَأَصَابَهُمُ الْبَلَاءُ، قَالُوا‏:‏ هَذَا مِنْ أَجْلِ دِينِ مُحَمَّدٍ‏.‏ فَارْتَدُّوْا كُفَّارًا، كَمَا قَامَ ذَانِكَ الْمُنَافِقَانِ حِينَ أَظْلَمَ الْبَرْقُ عَلَيْهِمَا‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ مَا حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ‏}‏، كَمَطَرٍ، ‏{‏فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ‏}‏ إِلَى آخَرِ الْآيَةِ، هُوَ مَثَلُ الْمُنَافِقِ فِي ضَوْءِ مَا تَكَلَّمَ بِمَا مَعَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَعَمِلَ، مُرَاءَاةً لِلنَّاسِ، فَإِذَا خَلَا وَحْدَهُ عَمِلَ بِغَيْرِهِ‏.‏ فَهُوَ فِي ظُلْمَةٍ مَا أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ‏.‏ وَأَمَّا الظُّلُمَاتُ فَالضَّلَالَةُ، وَأَمَّا الْبَرْقُ فَالْإِيمَانُ، وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ‏.‏ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ، فَهُوَ رَجُلٌ يَأْخُذُ بِطَرَفِ الْحَقِّ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُجَاوِزَهُ‏.‏

وَالرَّابِعُ‏:‏ مَا حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ‏}‏، وَهُوَ الْمَطَرُ، ضَرَبَ مَثَلَهُ فِي الْقُرْآنِ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏فِيهِ ظُلُمَاتٌ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ ابْتِلَاءٌ، ‏"‏وَرَعْد‏"‏ يَقُولُ فِيهِ تَخْوِيفٌ، ‏"‏ وَبَرْقٌ ‏"‏، ‏{‏يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ يَكَادُ مُحْكَمُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُنَافِقِينَ، ‏{‏كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ‏}‏‏.‏ يَقُولُ‏:‏ كُلَّمَا أَصَابَ الْمُنَافِقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ عِزًّا اطْمَأَنُّوا، وَإِنْ أَصَابَ الْإِسْلَامَ نَكْبَةٌ قَامُوا لِيَرْجِعُوا إِلَى الْكُفْرِ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا‏}‏، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْحَجِّ‏:‏ 11‏]‏‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ سَائِرُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ بَعْدُ فِي ذَلِكَ، نَظِيرَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنَ الِاخْتِلَافِ‏:‏

فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ‏:‏ إِضَاءَةُ الْبَرْقِ وَإِظْلَامُهُ، عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ الْمَثَلِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

وَحَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ ‏{‏وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا‏}‏، فَالْمُنَافِقُ إِذَا رَأَى فِي الْإِسْلَامِ رَخَاءً أَوْ طُمَأْنِينَةً أَوْ سَلْوَةً مِنْ عَيْشٍ، قَالَ‏:‏ أَنَا مَعَكُمْ وَأَنَا مِنْكُمْ، وَإِذَا أَصَابَتْهُ شَدِيدَةٌ حَقْحَقَ وَاللَّهِ عِنْدَهَا، فَانْقُطِعَ بِهِ، فَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى بَلَائِهَا، وَلَمْ يَحْتَسِبْ أَجْرَهَا، وَلَمْ يَرْجُ عَاقِبَتَهَا‏.‏

وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏فِيهِ ‏{‏ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ أَجْبَنُ قَوْمٍ لَا يَسْمَعُونَ شَيْئًا إِلَّا إِذَا ظَنُّوا أَنَّهُمْ هَالِكُونَ فِيهِ حَذَرًا مِنَ الْمَوْتِ، ‏{‏وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ‏.‏ ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا آخَرَ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏‏}‏ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ‏{‏‏"‏، يَقُولُ‏:‏ هَذَا الْمُنَافِقُ، إِذَا كَثُرَ مَالُهُ، وَكَثُرَتْ مَاشِيَتُهُ، وَأَصَابَتْهُ عَافِيَةٌ قَالَ‏:‏ لَمْ يُصِبْنِي مُنْذُ دَخَلْتُ فِي دِينِي هَذَا إِلَّا خَيْرٌ‏.‏ ‏"‏‏}‏ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ‏"‏ يَقُولُ‏:‏ إِذَا ذَهَبَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَهَلَكَتْ مَوَاشِيهِمْ، وَأَصَابَهُمُ الْبَلَاءُ، قَامُوا مُتَحَيِّرِينَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ‏:‏ ‏{‏فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ قَوْمٍ سَارُوا فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، وَلَهَا مَطَرٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ عَلَى جَادَّةٍ، فَلَمَّا أَبْرَقَتْ أَبْصَرُوا الْجَادَّةَ فَمَضَوْا فِيهَا، وَإِذَا ذَهَبَ الْبَرْقُ تَحَيَّرُوا‏.‏ وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ، كُلَّمَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ أَضَاءَ لَهُ، فَإِذَا شَكَّ تَحَيَّرَ وَوَقَعَ فِي الظُّلْمَةِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا‏}‏، ثُمَّ قَالَ‏:‏ فِي أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمِ الَّتِي عَاشُوا بِهَا فِي النَّاسِ، ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو تُمَيْلَةَ، عَنْ عَبِيدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْبَاهِلِيِّ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، ‏{‏فِيهِ ظُلُمَاتٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ أَمَّا الظُّلُمَاتُ فَالضَّلَالَةُ، وَالْبَرْقُ الْإِيمَانُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ‏}‏، فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ هَذَا أَيْضًا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُنَافِقِينَ، كَانُوا قَدِ اسْتَنَارُوا بِالْإِسْلَامِ، كَمَا اسْتَنَارَ هَذَا بِنُورِ هَذَا الْبَرْقِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ شَيْءٌ سَمْعَهُ الْمُنَافِقُ إِلَّا ظَنَّ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ، وَأَنَّهُ الْمَوْتُ، كَرَاهِيَةً لَهُ- وَالْمُنَافِقُ أَكْرَهُ خَلْقِ اللَّهِ لِلْمَوْتِ- كَمَا إِذَا كَانُوا بِالْبَرَازِ فِي الْمَطَرِ، فَرُّوا مِنَ الصَّوَاعِقِ‏.‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ مَثَلٌ ضُرِبَ لِلْكَافِرِ‏.‏

وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الَّتِي ذَكَرْنَا عَمَّنْ رَوَيْنَاهَا عَنْهُ، فَإِنَّهَا- وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِيهَا أَلْفَاظُ قَائِلِيهَا- مُتَقَارِبَاتُ الْمَعَانِي، لِأَنَّهَا جَمِيعًا تُنَبِّئُ عَنْ أَنَّ اللَّهَ ضَرَبَ الصَّيِّبَ لِظَاهِرِ إِيمَانِ الْمُنَافِقِ مَثَلًا وَمَثَّلَ مَا فِيهِ مِنْ ظُلُمَاتٍ لِضَلَالَتِهِ، وَمَا فِيهِ مِنْ ضِيَاءِ بَرْقٍ لِنُورِ إِيمَانِهِ، وَاتِّقَاءَهُ مِنَ الصَّوَاعِقِ بِتَصْيِيرِ أَصَابِعَهُ فِي أُذُنَيْهِ، لِضَعْفِ جَنَانِهِ وَنَخْبِ فُؤَادِهِ مِنْ حُلُولِ عُقُوبَةِ اللَّهِ بِسَاحَتِهِ، وَمَشْيَهُ فِي ضَوْءِ الْبَرْقِ بِاسْتِقَامَتِهِ عَلَى نُورِ إِيمَانِهِ، وَقِيَامَهُ فِي الظَّلَامِ، لِحَيْرَتِهِ فِي ضَلَالَتِهِ وَارْتِكَاسِهِ فِي عَمَهِهِ‏.‏

فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا- إِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا- أَوْ مَثَلُ مَا اسْتَضَاءَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ- مِنْ قَيْلِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ‏:‏ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِمُحَمَّدٍ وَمَا جَاءَ بِهِ، حَتَّى صَارَ لَهُمْ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا أَحْكَامُ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ- مَعَ إِظْهَارِهِمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا يُظْهِرُونَ- بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، مُكَذِّبُونَ، وَلِخِلَافِ مَا يُظْهِرُونَ بِالْأَلْسُنِ فِي قُلُوبِهِمْ مُعْتَقِدُونَ، عَلَى عَمًى مِنْهُمْ، وَجَهَالَةٍ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالَةِ، لَا يَدْرُونَ أَيَّ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ قَدْ شُرِعَا لَهُمْ ‏[‏فِيهِ‏]‏ الْهِدَايَةُ، أَفِي الْكُفْرِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ إِرْسَالِ اللَّهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا أَرْسَلَهُ بِهِ إِلَيْهِمْ، أَمْ فِي الَّذِي أَتَاهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ‏؟‏ فَهُمْ مِنْ وَعِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجِلُونَ، وَهُمْ مَعَ وَجَلِهِمْ مِنْ ذَلِكَ فِي حَقِيقَتِهِ شَاكُّونَ، فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا‏.‏ كَمَثَلِ غَيْثٍ سَرَى لَيْلًا فِي مُزْنَةٍ ظَلْمَاءَ وَلَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ يَحْدُوهَا رَعْدٌ، وَيَسْتَطِيرُ فِي حَافَّاتِهَا بَرْقٌ شَدِيدٌ لَمَعَانُهُ، كَثِيرٌ خَطَرَانُهُ، يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ وَيَخْتَطِفُهَا مِنْ شِدَّةِ ضِيَائِهِ وَنُورِ شُعَاعِهِ، وَيَنْهَبِطُ مِنْهَا تَارَّاتٌ صَوَاعِقُ، تَكَادُ تَدَعُ النُّفُوسَ مِنْ شِدَّةِ أَهْوَالِهَا زَوَاهِقَ‏.‏

فَالصَّيِّبُ مَثَلٌ لِظَاهِرِ مَا أَظْهَرَ الْمُنَافِقُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الْإِقْرَارِ وَالتَّصْدِيقِ، وَالظُّلُمَاتُ الَّتِي هِيَ فِيهِ لِظُلُمَاتِ مَا هُمْ مُسْتَبْطِنُونَ مِنَ الشَّكِّ وَالتَّكْذِيبِ وَمَرَضِ الْقُلُوبِ‏.‏ وَأَمَّا الرَّعْدُ وَالصَّوَاعِقُ، فَلِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْوَجَلِ مِنْ وَعِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آيِ كِتَابِهِ، إِمَّا فِي الْعَاجِلِ وَإِمَّا فِي الْآجِلِ، أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ، مَعَ شَكِّهِمْ فِي ذَلِكَ‏:‏ هَلْ هُوَ كَائِنٌ أَمْ غَيْرُ كَائِنٍ‏؟‏ وَهَلْ لَهُ حَقِيقَةٌ أَمْ ذَلِكَ كَذِبٌ وَبَاطِلٌ‏؟‏- مَثَلٌ‏.‏ فَهُمْ مِنْ وَجَلِهِمْ، أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَقًّا، يَتَّقُونَهُ بِالْإِقْرَارِ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، مَخَافَةً عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْهَلَاكِ وَنُزُولِ النَّقِمَاتِ‏.‏ وَذَلِكَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏{‏يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ‏}‏، يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ يَتَّقُونَ وَعِيدَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمَا يُبْدُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنْ ظَاهِرِ الْإِقْرَارِ، كَمَا يَتَّقِي الْخَائِفُ أَصْوَاتَ الصَّوَاعِقِ بِتَغْطِيَةِ أُذُنَيْهِ وَتَصْيِيرِ أَصَابِعَهُ فِيهَا، حَذَرًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْهَا‏.‏

وَقَدْ ذَكَرْنَا الْخَبَرَ الَّذِي رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ‏:‏ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا إِذَا حَضَرُوا مَجْلِسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْخَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ فَرَقًا مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْزِلَ فِيهِمْ شَيْءٌ، أَوْ يُذْكَرُوا بِشَيْءٍ فَيُقْتَلُوا‏.‏ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا- وَلَسْتُ أَعْلَمُهُ صَحِيحًا، إِذْ كُنْتُ بِإِسْنَادِهِ مُرْتَابًا- فَإِنَّ الْقَوْلَ الَّذِي رُوِيَ عَنْهُمَا هُوَ الْقَوْلُ‏.‏ وَإِنْ يَكُنْ غَيْرَ صَحِيحٍ، فَأَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا قُلْنَا، لِأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا قَصَّ عَلَيْنَا مَنْ خَبَرِهِمْ فِي أَوَّلِ مُبْتَدَأِ قِصَّتِهِمْ، أَنَّهُمْ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِمْ‏:‏ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، مَعَ شَكِّ قُلُوبِهِمْ وَمَرَضِ أَفْئِدَتِهِمْ فِي حَقِيقَةِ مَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ، مِمَّا جَاءَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ‏.‏ وَبِذَلِكَ وَصَفَهُمْ فِي جَمِيعِ آيِ الْقُرْآنِ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا صِفَتَهُمْ‏.‏ فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏.‏

وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ إِدْخَالَهُمْ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مَثَلًا لِاتِّقَائِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ يَتَّقُونَهُمْ بِهِ، كَمَا يَتَّقِي سَامِعُ صَوْتِ الصَّاعِقَةِ بِإِدْخَالِ أَصَابِعَهُ فِي أُذُنَيْهِ‏.‏ وَذَلِكَ مِنَ الْمَثَلِ نَظِيرُ تَمْثِيلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مَا أَنْزَلَ فِيهِمْ مِنَ الْوَعِيدِ فِي آيِ كِتَابِهِ بِأَصْوَاتِ الصَّوَاعِقِ‏.‏ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ ‏{‏حَذَرَ الْمَوْتِ‏}‏، جَعَلَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مَثَلًا لِخَوْفِهِمْ وَإِشْفَاقِهِمْ مِنْ حُلُولِ عَاجِلِ الْعِقَابِ الْمُهْلِكِهِمُ الَّذِي تُوُعِّدُوهُ بِسَاحَتِهِمْ كَمَا يَجْعَلُ سَامِعُ أَصْوَاتِ الصَّوَاعِقِ أَصَابِعَهُ فِي أُذُنَيْهِ، حَذَرَ الْعَطَبِ وَالْمَوْتِ عَلَى نَفْسِهِ، أَنْ تَزْهَقَ مِنْ شِدَّتِهَا‏.‏

وَإِنَّمَا نَصَبَ قَوْلَهُ ‏{‏حَذَرَ الْمَوْتِ‏}‏ عَلَى نَحْوِ مَا تُنْصَبُ بِهِ التَّكْرِمَةُ فِي قَوْلِكَ‏:‏ ‏"‏ زُرْتُكَ تَكْرِمَةً لَكَ ‏"‏، تُرِيدُ بِذَلِكَ‏:‏ مِنْ أَجْلِ تَكْرِمَتِكَ، وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، ‏{‏وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 90‏]‏ عَلَى التَّفْسِيرِ لِلْفِعْلِ‏.‏ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏حَذَرَ الْمَوْتِ‏}‏، حَذَرًا مِنَ الْمَوْتِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْهُ‏.‏

وَذَلِكَ مَذْهَبٌ مِنَ التَّأْوِيلِ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَجْعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ حَذَرًا مِنَ الْمَوْتِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ مَا قَالَ إِنَّهُ يُرَادُ بِهِ، حَذَرًا مِنَ الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا جَعَلُوهَا مِنْ حِذَارِ الْمَوْتِ فِي آذَانِهِمْ‏.‏

وَكَانَ قَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ يَتَأَوَّلَانِ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ‏}‏، أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ صِفَةٌ لِلْمُنَافِقِينَ بِالْهَلَعِ وَضِعْفِ الْقُلُوبِ وَكَرَاهَةِ الْمَوْتِ، وَيَتَأَوَّلَانِ فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏يَحْسَبُونَ كُلَ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ‏]‏‏.‏

وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عِنْدِي كَالَّذِي قَالَا‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا تُنْكَرُ شَجَاعَتُهُ وَلَا تُدْفَعُ بَسَالَتُهُ، كَقُزْمَانَ، الَّذِي لَمْ يَقُمْ مَقَامَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِأُحُدٍ، أَوْ دُونَهُ‏.‏ وَإِنَّمَا كَانَتْ كَرَاهَتُهُمْ شُهُودَ الْمَشَاهِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَرْكُهُمْ مُعَاوَنَتَهُ عَلَى أَعْدَائِهِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي أَدْيَانِهِمْ مُسْتَبْصِرِينَ، وَلَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَدِّقِينَ، فَكَانُوا لِلْحُضُورِ مَعَهُ مَشَاهِدَهُ كَارِهِينَ، إِلَّا بِالتَّخْذِيلِ عَنْهُ‏.‏ وَلَكِنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُمْ بِالْإِشْفَاقِ مِنْ حُلُولِ عُقُوبَةِ اللَّهِ بِهِمْ عَلَى نِفَاقِهِمْ، إِمَّا عَاجِلًا وَإِمَّا آجِلًا‏.‏ ثُمَّ أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ- الَّذِينَ نَعَتَهُمُ اللَّهُ النَّعْتَ الَّذِي ذَكَرَ، وَضَرَبَ لَهُمُ الْأَمْثَالَ الَّتِي وَصَفَ، وَإِنِ اتَّقَوْا عِقَابَهُ، وَأَشْفَقُوا عَذَابَهُ إِشْفَاقَ الْجَاعِلِ فِي أُذُنَيْهِ أَصَابِعَهُ حِذَارَ حُلُولِ الْوَعِيدِ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِهِ فِي آيِ كِتَابِهِ- غَيْرُ مُنْجِيهِمْ ذَلِكَ مِنْ نُزُولِهِ بِعَقْوَتِهِمْ، وَحُلُولِهِ بِسَاحَتِهِمْ، إِمَّا عَاجِلًا فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا آجِلًا فِي الْآخِرَةِ، لِلَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ مَرَضِهَا، وَالشَّكِّ فِي اعْتِقَادِهَا، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ‏}‏، بِمَعْنَى جَامِعُهُمْ، فَمُحِلٌّ بِهِمْ عُقُوبَتَهُ‏.‏

وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ كَمَا‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ‏.‏ عَنْ عِيسَى بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ‏}‏، قَالَ‏:‏ جَامِعُهُمْ فِي جَهَنَّمَ‏.‏

وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَرَوِيَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ مَا‏:‏ حَدَّثَنِي بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدٍِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ اللَّهُ مُنْزِلٌ ذَلِكَ بِهِمْ مِنَ النِّقْمَةِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ‏}‏، قَالَ‏:‏ جَامِعُهُمْ‏.‏

ثُمَّ عَادَ جَلَّ ذِكْرُهُ إِلَى نَعْتِ إِقْرَارِ الْمُنَافِقِينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَالْخَبَرِ عَنْهُ وَعَنْهُمْ وَعَنْ نِفَاقِهِمْ، وَإِتْمَامِ الْمَثَلِ الَّذِي ابْتَدَأَ ضَرْبَهُ لَهُمْ وَلِشَكِّهِمْ وَمَرَضِ قُلُوبِهِمْ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏يَكَادُ الْبَرْقُ‏}‏، يَعْنِي بِالْبَرْقِ، الْإِقْرَارَ الَّذِي أَظْهَرُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ‏.‏ فَجَعَلَ الْبَرْقَ لَهُ مَثَلًا عَلَى مَا قَدَّمْنَا صِفَتَهُ‏.‏

‏{‏يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ يَذْهَبُ بِهَا وَيَسْتَلِبُهَا وَيَلْتَمِعُهَا مِنْ شِدَّةِ ضِيَائِهِ وَنُورِ شُعَاعِهِ‏.‏

كَمَا حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ يَلْتَمِعُ أَبْصَارَهُمْ وَلَمَّا يَفْعَلْ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالْخَطْفُ السَّلْبُ، وَمِنْهُ الْخَبَرُ الَّذِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ‏(‏نَهَى عَنِ الْخَطْفَةِ‏)‏ يَعْنِي بِهَا النُّهْبَةَ‏.‏ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْخُطَّافِ الَّذِي يُخْرَجُ بِهِ الدَّلْوُ مِنَ الْبِئْرِ خُطَّافٌ، لِاخْتِطَافِهِ وَاسْتِلَابِهِ مَا عَلِقَ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ بَنِي ذُبْيَانَ‏:‏

خَطَاطِيفُ حُجْنٌ فِي حِبَالٍ مَتِينَةٍ *** تَمُدُّ بِهَا أَيدٍ إِلَيْكَ نَوَازِعُ

فَجَعَلَ ضَوْءَ الْبَرْقِ وَشِدَّةَ شُعَاعِ نُورِهِ، كَضَوْءِ إِقْرَارِهِمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَشُعَاعِ نُورِهِ، مَثَلًا‏.‏

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ‏}‏، يَعْنِي أَنَّ الْبَرْقَ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ، وَجَعَلَ الْبَرْقَ لِإِيمَانِهِمْ مَثَلًا‏.‏ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ‏:‏ أَنَّهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمُ الْإِيمَانُ، وَإِضَاءَتُهُ لَهُمْ‏:‏ أَنْ يَرَوْا فِيهِ مَا يُعْجِبُهُمْ فِي عَاجِلِ دُنْيَاهُمْ، مِنَ النُّصْرَةِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَإِصَابَةِ الْغَنَائِمِ فِي الْمُغَازِي، وَكَثْرَةِ الْفُتُوحِ، وَمَنَافِعِهَا، وَالثَّرَاءِ فِي الْأَمْوَالِ، وَالسَّلَامَةِ فِي الْأَبْدَانِ وَالْأَهْلِ وَالْأَوْلَادِ- فَذَلِكَ إِضَاءَتُهُ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُظْهِرُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا يُظْهِرُونَهُ مِنَ الْإِقْرَارِ، ابْتِغَاءَ ذَلِكَ، وَمُدَافِعَةً عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَذَرَّارِيهِمْ، وَهُمْ كَمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْحَجِّ‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ ‏{‏مَشَوْا فِيهِ‏}‏، مَشَوْا فِي ضَوْءِ الْبَرْقِ‏.‏ وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَثَلٌ لِإِقْرَارِهِمْ عَلَى مَا وَصَفْنَا‏.‏ فَمَعْنَاهُ‏:‏ كُلَّمَا رَأَوْا فِي الْإِيمَانِ مَا يُعْجِبُهُمْ فِي عَاجِلِ دُنْيَاهُمْ عَلَى مَا وَصَفْنَا، ثَبَتُوا عَلَيْهِ وَأَقَامُوا فِيهِ، كَمَا يَمْشِي السَّائِرُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَظُلْمَةِ الصَّيِّبِ الَّذِي وَصَفَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، إِذَا بَرَقَتْ فِيهَا بَارِقَةٌ أَبْصَرَ طَرِيقَهُ فِيهَا‏.‏

‏{‏وَإِذَا أَظْلَمَ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ ذَهَبَ ضَوْءُ الْبَرْقِ عَنْهُمْ‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ ‏"‏ عَلَيْهِمْ ‏"‏، عَلَى السَّائِرِينَ فِي الصَّيِّبِ الَّذِي وَصَفَ جَلَّ ذِكْرُهُ‏.‏ وَذَلِكَ لِلْمُنَافِقِينَ مَثَلٌ‏.‏ وَمَعْنَى إِظْلَامُ ذَلِكَ‏:‏ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كُلَّمَا لَمْ يَرَوْا فِي الْإِسْلَامِ مَا يُعْجِبُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ- عِنْدَ ابْتِلَاءِ اللَّهِ مُؤْمِنِي عِبَادِهِ بِالضَّرَّاءِ، وَتَمْحِيصِهِ إِيَّاهُمْ بِالشَّدَائِدِ وَالْبَلَاءِ، مِنْ إِخْفَاقِهِمْ فِي مَغْزَاهُمْ، وَإِنَالَةِ عَدُوِّهِمْ مِنْهُمْ، أَوْ إِدْبَارٍ مِنْ دُنْيَاهُمْ عَنْهُمْ- أَقَامُوا عَلَى نِفَاقِهِمْ، وَثَبَتُوا عَلَى ضَلَالَتِهِمْ، كَمَا قَامَ السَّائِرُ فِي الصَّيِّبِ الَّذِي وَصَفَ جَلَّ ذِكْرُهُ إِذَا أَظْلَمَ وَخَفَتَ ضَوْءُ الْبَرْقِ، فَحَارَ فِي طَرِيقِهِ، فَلَمْ يَعْرِفْ مَنْهَجَهُ‏.‏